يسعى هذا البحث إلى مساءلة الحضور المرجعي لاشتغالات التشكيل العربي المعاصر في منحنيين اثنين: أصوله العربية الإسلامية، وامتداداته على مستوى المنجز الفنّي، من أجل كشف المرجعيات الفكرية والثقافية للتشكيل العربي المعاصر من خلال الفنّ الإسلامي، والبحث في أشكال تمثّل هذه المرجعيات الفنّية، واستكناه أفق تمثّل المرجع. وقد اختار الباحث المغربي د. جمال بوطيب، كإجراء منهجي، دمج المكوّنات الثلاثة عبر البحث في تداخلها، مستندًا إلى إطار نظري لمفهوم المرجع، وإلى اقتراحات تصوّرية للفنّ من خلال رؤية الفنّان التشكيلي من جهة، واعتماد التلقيات البصرية للأعمال من جهة أخرى، مؤكّدا أن التمثّل للمرجعيات يتجلّى في أثر المرجع وتجدّد الدوال، وتاليًا تجدّد المدلولات وإعادة إنتاجها.
ساءل بوطيب ثلاث تجارب عربية متميزة: تجربة المغربية نادية خيالي، والمصري محمّد طوسون، والسعودي محمّد شراحيلي، وهي أسماء تحتفي بالخط العربي ليس في حالة إنتاجه، بل في حالة إعادة إنتاجه، أي ما يمكن نعته بعلم الأسر من خلال فنّ السحر، ما دام العمل الفنّي يشدّ المتلقي ليس بالخطّ فقط، بل بمكوّنات عدّة، الخط واحد منها، بحيث لا يمكن عزل المكوّنات عن بعضها، لأنها تكوّن معنى مشتركًا، وتمارس سلطة جذب مركّبة، أو بتعبير الناقد الجمالي المغربي موليم العروسي عن الخطّ: "نص يسجننا بداخله، ويسلمنا إلى سلطة عتيقة. عندما نعيد إنتاج الخطّ والنصّ، فإننا نعيد وبالحركة نفسها إنتاج المعنى القابع فيهما. عند ذاك ألا نكون فقط كمن يزيّن ويغني المعنى الأصلي؟".
ووفق بوطيب فإن الكتابة في الفنّون الإسلامية في التشكيل العربي المعاصر، يمكن تناولها من أكثر من زاوية، جازمًا أن اللوحة نصّ بكل المقاييس، غير أن أجمل ما في اللوحة، أن اللون قد يقودك أحيانًا إلى المشتهى، وأخطر ما في القماشة أنها قد تخفي تحت الشكل أشكالًا، وبين البياض بياضًا، وتحت اللوحة لوحات، بل إنه يعدّ الشطب في الكتابة رفضًا للمكتوب، بينما هو في اللوحة تأسيس لشكلٍ جديد.
في مبحث فلسفة "الفنّ المعاصر، تأصيل معرفي"، يحدّد الباحث في البدء مفهوم الفنّ الإسلامي، منطلقًا ممّا يسميه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي بـ "حضارة العلامة" كمدخل رئيس، لأنه يلامس بعمق الخاصية التأسيسية للمنتج التشكيلي العربي من منظور صدى الفنّ الإسلامي، ما دام البعد العلاميّ المميز لهذا الفنّ حاضرًا بمختلف أشكاله؛ رمزًا وإشارةً ودالًا ومدلولًا ومرجعًا.
فالحضارات الإنسانية، وفقًا للخطيبي، تختلف، ومرجعياتها التكوينية تتباين، ومردّ ذلك نشأة الحضارة الإسلامية وتطوّرها وتلاقحها مع حضارات أخرى، لذلك لا يعدّها حضارةً خالصة من تأثيرات مجاورة، وهي المسلمة التي تقود إلى أن الفنون الإسلامية أساسًا، فنون الحضارات لا فنون العرب والمسلمين. وقد قسّم الحضارات إلى ثلاثة نماذج كبرى: حضارة الصورة، حضارة العلامة، وحضارة الإيقاع.
يتطرّق بوطيب إلى الأسئلة الجوهرية التي طرحها العروسي عند حديثه عن فلسفة الكون، وعن الإستيطيقيا باعتبارها تعتمد السند وتأخذ طريق السؤال، وعندما نقول السؤال في الفلسفة، فإننا نشير إلى المستحيل. ويحترز العروسي: "فإننا نجد أن التأكيد على منع الصورة موجودٌ في كتاب موسى ثمّ مورس في باقي الديانات كتقليد".
ولتجديد المفهوم المرتبط بالفنّ الإسلامي يقترح بوطيب مجموعة من المداخلات والمقدمات، معتبرًا الفنّ الإسلامي فنّ حضارة وفنّ علامة، متجدّد المعنى ومتعدّد الجغرافيات. فنّ تجريدي لمرجعيته الرافضة لكلّ شكل تشخيصي أو تجسيمي. فالمتأمّل لهذا الفنّ، بمختلف توجهاته، سيجده فنّا متماشيًا مع المدارس التشكيلية ضمن معطى أساس؛ أنها جميعًا لا تنظر للطبيعة كمعطى ثابت، بل كعلامة دالّة على الخالق. وهذا الفن بكلّ توجهاته يحقّق هدفين؛ تأكيد المعادلة (الصدى فنّ إسلامي، والصوت تشكيل عربي معاصر). وخلخلتها (الصدى فن عربي والصوت تشكيل عربي وفنّ إسلامي معاصر).
ويرى الباحث، أن الفنّان العربي المعاصر لا يقف عند هذا الحدّ، أي الجمع بين فنّه العربي الإسلامي والفنّ المعاصر، بل يتعداه عبر الانتقال من التشكيل إلى فنّ الديكور والصوغ، وعبر استغلال التطوّر التكنولوجي في الممارسة التشكيلية؛ وهذا ما يمكّن الكثير من الفنانين من تحقيق تواصل بين ماضٍ وحاضر فنيين، بل إن الفنون الإسلامية، خاصة تلك التي استعصى فك رموزها الهندسية، كالرقش، اعتمدت نظامًا تحليليًا بواسطة الحاسوب.
البحث في أصداء الفنون الإسلامية في التشكيل العربي المعاصر، لا يمكنه إلا أن يؤكّد أن هذه الفنون هي معين لهذا التشكيل لا ينضب، وبإمكان المجدّد بحثًا أو تشكيلًا أو ممارسةً، أن يجد الجديد دائمًا.