في البداية، لا بدّ من القول إن هذا الفيروس القاتل والذي يعيث فساداً في فلسطين التاريخية بأكملها لا يكترث بخطوط حمر أو خضر أو ما شابه. الفيروس التاجي هذا جاء لكي يوحد فلسطين التاريخية وذلك كاستكمالٍ لتلك الوحدة التي قام بها فيروس الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة عام 1967. وبما أن حدود الدول والحدود القومية والدينية والإثنية غير قادرة على الحد من انتشاره، من المُضحِكِ بمكان ادعاء بنيامين نتنياهو بأن "كل البشرية هي على متن سفينة واحدة" إذ يبدو وكأنه يحاول أن يتناسى أن لا مكان للشعب الفلسطيني على هذه السفينة، وذلك وفقاً للكاتب الإسرائيلي جوناثان اوفير. فبالفعل، ليس لدى المُكون الفلسطيني في فلسطين التاريخية "دولة" لتحميه، إذ إن الدولة المسيطرة على هذا الحيز الجغرافي هي دولة تناصبه العداء ولا تدخر جهداً لقتله وسرقة أرضه. وباء جديد يُضاف إلى وباء الاحتلال والأبارتهايد والعنصرية لا بدّ من أن يكون موضوعاً للترحيب به لكي تتحول فلسطين التاريخية إلى دولة يهودية كاملة مُعلنةً بلوغ الهدف الأسمى للحركة الصهيونية.
كيف يمكن للمكون الفلسطيني أن يواجه وباءً مثل هذا الوباء الخطير وهو لا يملك المقومات الفعلية للمواجهة؟ فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية، لا تمتلك غزة سوى 50 وحدة فحص للفيروس و100 قناع واق من العدوى في منطقة ضيقة يسكنها أكثر من مليون و800 ألف مواطن فلسطيني وذلك بمعدل 6 آلاف شخص في الكيلومتر المربع الواحد. هنا، قد تكون الضفة الغربية أكثر حظاً بقليل من غزة في مجال الخدمات الصحية ولكن، سياسات الأبارتهايد العنصرية بخصوص عشرات الآلاف من عمالها والذين سوف يعودون بعد شهرين من "الحجر العنصري" لهم ما وراء الخط الأخضر، إذ سوف يكونون كالقنبلة الموقوتة لنشر هذا الوباء في الضفة الغربية.
الضفة الغربية، القدس والعمالة الفلسطينية في مواجهة الجائحة والأبارتهايد
يُضافُ إلى خطر الفيروس التاجي القادم في الضفة الغربية خطر فيروس الاستيطان الزاحف من دون توقف، ففي 17 مارس/آذار، أُعيد العمل وبنشاط محموم لاستكمال بناء الجدار في بلدة صور باهر شرق القدس، وذلك للمضي في تغيير الحقائق على الأرض وعزل القدس عن الضفة وحماية طريق الأبارتهايد الواصل ما بين مستعمرة "معال أدوميم" وعدد من المستوطنات الصغيرة المعزولة.
استكمال جدار الفصل العنصري رافقه إعلان نفتالي بينيت في 10 مارس إغلاق كل المنافذ والمعابر ما بين الضفة وفلسطين 48 مُحولاً الضفة إلى معزل عنصري على شاكلة البانتوستانات في جنوب أفريقيا، مما يُعزز من قدراته على ضبطها والحد من مقاومتها الاحتلال، وذلك خلف ستار الضجيج الدولي في ما يخص "مقاومة" الفيروس القاتل.
استخدام المُعطى الصحي الطارئ لتعزيز الاستيطان وتنفيذ ما تبقى من خطوات "صفقة القرن" التصفوية استُكمِلَ من خلال ممارسة أبارتهايد صحي بامتياز ضد المناطق الفلسطينية في الضفة والقدس.
في منطقة القدس وداخل الجدار (بيت حنينا، شعفاط، سلوان، جبل المكبر، البلدة القديمة، الشيخ جراح) وفي خارج الجدار (كفر عقب، الرام، قلنديا)، وجد المقدسيون أنفسهم من دون أي عون صحي، سواءً من المؤسسة الصحية الفلسطينية أو الإسرائيلية، بل جرى اعتقال بعض الشباب ممن حاولوا القيام بحملة توعية ضد انتشار الفيروس. عنصرية دولة إسرائيل لم تقدم لهم يد العون، ولم تسمح لسلطة رام الله بمساعدتهم، بل منعتهم من ممارسة حقهم المشروع بمساعدة بعضم بعضاً. إضافة إلى ذلك، جرى منع المقدسيين كغيرهم من سكان الضفة من الوصول إلى القدس الغربية، وذلك تحت ستار حماية التجمع الإسرائيلي من مخاطر العدوى وخاصة إثر الادعاءات العنصرية المتكررة حول مخيم شعفاط كمصدر محتمل للوباء وانتشاره.
الفلسطيني المُعدي (والمُعادي) يُصبحُ مطلوباً في حالة أخرى لإنقاذ الاقتصاد الصهيوني من أزمته الكبرى بعد انتشار الوباء. قطاع الإنشاءات والبناء الإسرائيلي يعتمد بصورة كبيرة على اليد العاملة الفلسطينية والتي تتراوح ما بين 120 ألفاً إلى 150 ألف عامل. وهذا القطاع الاستراتيجي يشكل ما نسبته 11 في المئة من مجمل الناتج "القومي" في الاقتصاد الإسرائيلي.
في 20 مارس، تصرح السلطات الإسرائيلية بالسماح للعمال بالمبيت في أماكن عملهم وتُحدد تاريخ عودتهم إلى بيوتهم بعد شهرين من الحجر والحجز والحد من حرية تنقلهم عبر الخط الأخضر (معاريف 20 مارس) فيما تعلن في يوم لاحق إقفال الضفة الغربية تماما. وبعد يومين وفي 23 مارس، تقوم إحدى دورياتها العسكرية بإلقاء أحد العمال على قارعة الطريق قرب حاجز بيت سيرا للاشتباه بإصابته بالفيروس، وذلك في انتهاك فاضح لحقوق العمال وحقوق الإنسان إجمالاً. الطواقم الطبية والأمنية الفلسطينية قامت باستعادته من دون أن نسمع ولو باحتجاج واحد من السلطة الفلسطينية على هذا السلوك المشين.
إن هذه الحادثة لا تدل فقط على فظاعة السلوك العنصري الإجرامي لدولة إسرائيل، وإنما على تهاون سلطة رام الله وعدم اكتراثها بمصير البسطاء من شعبها ممن يسعون إلى الحصول على لقمة عيشهم الكريم بالعمل في المصانع وورشات البناء الإسرائيلية، إذ يبدو أن عمل هؤلاء يخفف من الأزمة الاقتصادية التي تشهدها مناطق الضفة الغربية فيما أن هذه العلاقة التبعية في مجال الاقتصاد ما بين طرف ومركز تُلبي استمرارية التعاون الأمني "المقدس" عبر بوابة التعاون الاقتصادي وصولاً للتعاون الصحي الطارئ.
هل جاء الفيروس ليقدم خدمة ثمينة للسياسة العنصرية الإسرائيلية للمضي قدماً في تنفيذ صفقة القرن من دون ضجيج يُذكر، ولكي يقدم خدمة لسلطتي رام الله وغزة في مواصلة سياسات المهادنة مع الاحتلال والتعويل على عامل الزمن الذي يلعب لصالح إسرائيل وليس لصالحهما؟
من المؤكد أن الاستغلال السياسي لهذا الوباء قد يعود في المدى القصير ببعض الفائدة على هذه القوى المسيطرة على المشهد السياسي العام، ولكن، هل يمكن أن نفترض أن انتشار هذا الوباء قد يحمل تغييرات لا مفر منها على صعيد العلاقات الدولية، على صعيد العولمة والتكالب الرأسمالي والإمبريالي على نهب ثروات الشعوب. لقد بات واضحاً وقبل أن يضع هذا الوباء رحاله أن اليوم اللاحق للوباء لن يكون كاليوم السابق له، كانهيار مقولات التفوق الغربي تكنولوجياً وأخلاقياً، انهيار التضامن الأوروبي والبروز اللافت للنظر لموقع الصين على المستوى الدولي.
هنا، هذه التغيرات الدولية والإقليمية ستصيب آجلاً أم عاجلاً الصراع الفلسطيني الصهيوني.
الفيروس والدولة الواحدة
يوسي بيلين (صديق أبو مازن) تحول في هذه الأيام من صهيوني ليبرالي وداعية لـ "السلام" إلى صهيوني متطرف في رفضه إسناد أي دور لـ "القائمة المشتركة" في الحياة السياسية الإسرائيلية، إلا أن هذا لم يمنعه من التصريح بأن "كورونا يدفعنا إلى التفكير بحل الكونفيدرالية الإسرائيلية-الفلسطينية"(20/مارسThe times of Israel). ما السرُ في هذا التعويل على الفيروس لإنجاز ما عجزت عن إنجازه 27 سنةً من المفاوضات العبثية؟
في الواقع، جاء الوباء لكي يكشف وبصورة سافرة عن دور مستعمرة "بيت إيل" كالعاصمة الفعلية لمناطق "السلطة الفلسطينية" ولمقر "الإدارة المدنية الإسرائيلية" فيها كالحكومة الفعلية لما تسميه إسرائيل بمناطق يهودا والسامرة. "الإدارة المدنية" ساهمت وبنشاط في عملية عزل بيت لحم وبيت ساحور لكي لا يتفشى المرض خارجهما. مسؤولة الشؤون الصحية في "الإدارة المدنية" تُصرح بأن الفيروسات والبكتيريا لا تتوقف على الحدود (وكأن هناك حدوداً بالفعل) بل وتحث السلطات الطبية الفلسطينية على المزيد من التعاون لما فيه مصلحة للطرفين وتبدي استعدادها لتدريب كوادر طبية فلسطينية على مواجهة كورونا وزيادة المساعدات في المعدات وتحويلها 250 وحدة فحص إضافية للمستشفيات الفلسطينية (5 مارس Ouest-France).
الجيش الإسرائيلي من جهته قام بالتنسيق المباشر مع "حماس" بتنظيم عملية إغلاق المعابر مع غزة، بل قام بتحويل ألفي وحدة فحص للفيروس إلى وزارة الصحة في غزة، وقبل ذلك وفي 2 مارس، منحت إسرائيل سبعة آلاف تصريح لعمال وتجار من غزة لعبور حاجز "إيريز" وتخيف الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها غزة، وبالتالي تخفيف الضغط عن حركة حماس التي تدير القطاع. وهكذا، استُكمِل "التنسيق الأمني" ما بين رام الله وسلطات الاحتلال بالتنسيق الصحي فيما استُكمِلت "التهدئة العسكرية" مع غزة بتعاون ميداني في مجال الصحة والاقتصاد.
ها نحن أمام واقع لا مفر من الاعتراف بحقائقه الكبرى: من النهر إلى البحر، ليس هناك سوى "دولة واحدة" إلى جانب "سلطات محلية" متعاونة حيناً ومُشاكسة حيناً آخر. هذه السلطات المحلية، تُنسق أمنياً وتهادن عسكرياً مع عدوها، وتطلق تصريحات نارية من وقتٍ إلى آخر ضد العدو المغتصب موضوع التنسيق والهدنة طويلة الأمد.
لذا، وفي ظل استفحال فيروس الاستيطان في الضفة وهدم البيوت على امتداد أرض فلسطين التاريخية من كفر قاسم عبوراً بالقدس ووصولاً إلى إم الحيران في النقب، وتجريف الأراضي الزراعية وإتلاف المحاصيل (النقب) ومداهمة المخيمات والقرى والتنكيل بأهلها من مخيم الدهيشة إلى بلدة كفر قدوم،... رغم تفاقم هذا القهر الكولونيالي الصهيوني هناك من يتستر بمخاطر الفيروس التاجي لكي لا يجيب على الأسئلة المصيرية حول الحاجة إلى نضالٍ من نوع جديد: نضال لتفكيك دولة إسرائيل بما هي الدولة الواحدة، دولة عنصرية وكولونيالية لكي تُبنى على أنقاضها دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة.