21 فبراير 2018
القاتل الصغير
فتح العالم، أخيراً، ذاكرة حرب الإبادة في رواندا قبل 20 عاماً، ومعها فُتح نقاش قانوني وسياسي وحقوقي مهم جداً، بشأن حدود المسؤوليات في ما جرى، خصوصاً أن الحرب أكلت 800 ألف إنسان أفريقي، 90% منهم أبرياء، لم يشاركوا في حرب المناجل والسكاكين قط، سواء من قبيلة التوتسي أو الهوتو. دار النقاش، ويدور، بشأن القاتل الصغير، أو الجلاد المأمور، ما مسؤوليته؟ وما عقوبته في العدالة الانتقالية، أو العدالة الجنائية؟
لا خلاف بين القانونيين بشأن المسؤولية الجنائية لمَن خططوا لهذه الحرب، ولمَن أعطوا الأوامر بالقتل، ولمَن استفادوا من الإبادة الجماعية للأبرياء في هذا البلد الأفريقي البائس، لكن المنفّذين الصغار عادةً ما لا يحمّلهم القضاء الدولي والأمم المتحدة والمراقبون والحقوقيون مسؤولية الكبار نفسها عن الجرائم التي ارتكبوها، بدعوى أنهم مجرد أدوات للتنفيذ، وبعضهم يرى أنهم "ضحايا" أيضاً بشكل من الأشكال.
لكن، اليوم، هناك مَن يرى عكس ذلك تماماً. أدوات القتل الصغيرة هذه لو كانت تخاف الحساب، قَدْرَ خوفها من سيدها الذي أمرها بالقتل، أو التعذيب، أو انتهاك حقوق الإنسان، لما أقدمت على مسّ حياة البشر.
الشرطي الصغير، أو المخبر، أو الجندي، عندما يعرف أنه سيُسأل عن التعذيب، وعن القتل، وعن المسّ بكرامة البشر، وعن خرق القانون، وأن سيّده الذي يعطيه الأوامر، اليوم، لن يحميه غداً من المساءلة القانونية أمام محكمة وطنية أو دولية، ربما يفكر ألف مرة، قبل أن يقدم على تلويث يده بدم إنسان آخر.
لو كان رجال الأمن، في العالم العربي، يعرفون أن هناك حساب وعقاب عن سنوات الرصاص، وأن التعذيب والاختطاف والاعتقال التعسفي، وإطلاق النار على المتظاهرين، والتجسّس غير القانوني على مكالمات الناس وحياتهم الخاصة، لو كانوا يعلمون أن يوم الحساب سيأتي، فربما كان معظمهم سيرفض الانصياع للأوامر النازلة من فوق، وربما يقدّم استقالته، أو يهرب بجلده، بعيداً عن مستنقع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
لو كان القضاة الذين أصدروا، ويصدرون، أحكاماً جائرة في حق المتظاهرين والمعارضين السياسيين، لو كانوا يعرفون أن يوم حسابهم سيأتي، وأن إصدار أحكام جائرة بالسجن، أو الإعدام، جريمة لن تمرّ من دون عقاب، عاجل أو آجل، وأن سياسة اللاعقاب لا يمكن أن تدوم إلى الأبد، لو كانوا يعلمون ذلك، فربما رجعوا إلى الوراء، وربما استيقظ داخلهم الخوف إذا لم يستيقظ ضميرهم.
الجلاد ليس فقط مَن يعطي الأوامر بالقتل والتعذيب وتزوير الانتخابات والانقلاب على الشرعية، بل كل مَن ينفّذ الجريمة صغيراً أو كبيراً، وكل مَن يبررها، ويفتي لها وينظّر لجرائمها، ومَن يقود الحملات الإعلامية لتبييض وجهها، وحتى مَن يصمت في وجه الجلاد ويختار أن يكون شيطاناً أخرس. كل هؤلاء شركاء في الجريمة، ويجب أن يعرفوا أن يوم الحساب آتٍ لا ريب فيه.
السلطة تعرف أن نظام القمع التراتبي مبنيّ على هذه الحصانة غير القانونية، لهذا، هي تحمي الصغار من أبنائها قبل الكبار، وتغضب كثيراً إذا اقترب منهم أحد بالمساءلة، أو الحساب، أو حتى الاعتراض، لأنها تعرف أن نظام التعليمات والأوامر سينهار، إذا تعرّض الصغار للمساءلة القانونية، وأن أحداً من هؤلاء لن يعتقل بريئاً، ولن يطلق النار على متظاهر، ولن يتجسّس على مواطن خارج القانون، ولن يدافع عن النظام بكل الوسائل الممكنة، إذا كان يعرف أنه سيُسأل عمّا يفعل غداً.
تغوّلت المؤسسة الأمنية في العقود الأخيرة في البلدان العربية، وتحوّلت من آلة للقمع وأداة للسيطرة فقط إلى مصدر لشرعية الحاكم (شرعية القوة وحكم الناس بالخوف)، وهكذا أضحت المؤسسة الأمنية تخطط للسياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة. وكلما اتّسع نفوذها ازدادت جرائمها وتجاوزاتها، وتحوّلت إلى أكبر قلعة مناهضة للإصلاح. حتى أنها أحياناً، وبفعل اتّساع نفوذها وتشعّب مصالحها، صارت تعارض الحاكم نفسه، عندما يتّجه نحو المرونة مع معارضيه، أو نحو سياسة انفتاح جزئي لإصلاح النظام من الداخل، تتّجه هذه الأجهزة إلى التأثير على قراراته، وتخفيه من شعبه، وتشيطن كل ناصح أمين. وإذا أضفنا إلى هذه المؤسسة القمعية تأثير رجال المال والأعمال الفاسدين ووسائل الإعلام المتواطئة ضد الإصلاح، تتّضح صعوبة الانتقال الديموقراطي في العالم العربي اليوم.
لا خلاف بين القانونيين بشأن المسؤولية الجنائية لمَن خططوا لهذه الحرب، ولمَن أعطوا الأوامر بالقتل، ولمَن استفادوا من الإبادة الجماعية للأبرياء في هذا البلد الأفريقي البائس، لكن المنفّذين الصغار عادةً ما لا يحمّلهم القضاء الدولي والأمم المتحدة والمراقبون والحقوقيون مسؤولية الكبار نفسها عن الجرائم التي ارتكبوها، بدعوى أنهم مجرد أدوات للتنفيذ، وبعضهم يرى أنهم "ضحايا" أيضاً بشكل من الأشكال.
لكن، اليوم، هناك مَن يرى عكس ذلك تماماً. أدوات القتل الصغيرة هذه لو كانت تخاف الحساب، قَدْرَ خوفها من سيدها الذي أمرها بالقتل، أو التعذيب، أو انتهاك حقوق الإنسان، لما أقدمت على مسّ حياة البشر.
الشرطي الصغير، أو المخبر، أو الجندي، عندما يعرف أنه سيُسأل عن التعذيب، وعن القتل، وعن المسّ بكرامة البشر، وعن خرق القانون، وأن سيّده الذي يعطيه الأوامر، اليوم، لن يحميه غداً من المساءلة القانونية أمام محكمة وطنية أو دولية، ربما يفكر ألف مرة، قبل أن يقدم على تلويث يده بدم إنسان آخر.
لو كان رجال الأمن، في العالم العربي، يعرفون أن هناك حساب وعقاب عن سنوات الرصاص، وأن التعذيب والاختطاف والاعتقال التعسفي، وإطلاق النار على المتظاهرين، والتجسّس غير القانوني على مكالمات الناس وحياتهم الخاصة، لو كانوا يعلمون أن يوم الحساب سيأتي، فربما كان معظمهم سيرفض الانصياع للأوامر النازلة من فوق، وربما يقدّم استقالته، أو يهرب بجلده، بعيداً عن مستنقع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
لو كان القضاة الذين أصدروا، ويصدرون، أحكاماً جائرة في حق المتظاهرين والمعارضين السياسيين، لو كانوا يعرفون أن يوم حسابهم سيأتي، وأن إصدار أحكام جائرة بالسجن، أو الإعدام، جريمة لن تمرّ من دون عقاب، عاجل أو آجل، وأن سياسة اللاعقاب لا يمكن أن تدوم إلى الأبد، لو كانوا يعلمون ذلك، فربما رجعوا إلى الوراء، وربما استيقظ داخلهم الخوف إذا لم يستيقظ ضميرهم.
الجلاد ليس فقط مَن يعطي الأوامر بالقتل والتعذيب وتزوير الانتخابات والانقلاب على الشرعية، بل كل مَن ينفّذ الجريمة صغيراً أو كبيراً، وكل مَن يبررها، ويفتي لها وينظّر لجرائمها، ومَن يقود الحملات الإعلامية لتبييض وجهها، وحتى مَن يصمت في وجه الجلاد ويختار أن يكون شيطاناً أخرس. كل هؤلاء شركاء في الجريمة، ويجب أن يعرفوا أن يوم الحساب آتٍ لا ريب فيه.
السلطة تعرف أن نظام القمع التراتبي مبنيّ على هذه الحصانة غير القانونية، لهذا، هي تحمي الصغار من أبنائها قبل الكبار، وتغضب كثيراً إذا اقترب منهم أحد بالمساءلة، أو الحساب، أو حتى الاعتراض، لأنها تعرف أن نظام التعليمات والأوامر سينهار، إذا تعرّض الصغار للمساءلة القانونية، وأن أحداً من هؤلاء لن يعتقل بريئاً، ولن يطلق النار على متظاهر، ولن يتجسّس على مواطن خارج القانون، ولن يدافع عن النظام بكل الوسائل الممكنة، إذا كان يعرف أنه سيُسأل عمّا يفعل غداً.
تغوّلت المؤسسة الأمنية في العقود الأخيرة في البلدان العربية، وتحوّلت من آلة للقمع وأداة للسيطرة فقط إلى مصدر لشرعية الحاكم (شرعية القوة وحكم الناس بالخوف)، وهكذا أضحت المؤسسة الأمنية تخطط للسياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة. وكلما اتّسع نفوذها ازدادت جرائمها وتجاوزاتها، وتحوّلت إلى أكبر قلعة مناهضة للإصلاح. حتى أنها أحياناً، وبفعل اتّساع نفوذها وتشعّب مصالحها، صارت تعارض الحاكم نفسه، عندما يتّجه نحو المرونة مع معارضيه، أو نحو سياسة انفتاح جزئي لإصلاح النظام من الداخل، تتّجه هذه الأجهزة إلى التأثير على قراراته، وتخفيه من شعبه، وتشيطن كل ناصح أمين. وإذا أضفنا إلى هذه المؤسسة القمعية تأثير رجال المال والأعمال الفاسدين ووسائل الإعلام المتواطئة ضد الإصلاح، تتّضح صعوبة الانتقال الديموقراطي في العالم العربي اليوم.