17 مارس 2019
القاموس المسلّح
عوني بلال
ـ لدينا حساسية خاصة للمسميات والمصطلحات، ويتصرف كثيرون وكأن الأحداث مِن حولنا هي نتاج ما يُقال، لا ما يحصل، وأن الواقع ظاهرة لغوية نخترعها بأفواهنا، وأنك ما دمت تجترح مسمياتٍ مُهينة لخصومك، وتخترع تسميات مُعقَّمة لنفسك فأنت المنتصر، ولو كنت مهزوماً. ربما يتعلق الأمر بقناعةٍ أسطوريةٍ قديمة، مفادها بأن الواقع قد يُحاكي كلامَنا إذا ما كررنا كلامَنا بما فيه الكفاية. غالبية طقوس السحر القديمة تنطلق من هنا. ما نسميه في ثقافتنا الشعبية العمل أوالحجاب هو محاولة للتلاعب بالواقع عبر نص مكتوب، لا يقرأه حتى صاحب العلاقة، لكن مجرد وجوده، ثم دسّه داخل حائط، أو أسفل وسادة، يمنحه قدرة غرائبية على تغيير مصائر البشر.
ـ في مكتبة منزلنا موسوعة أجنبية قديمة، ابتعناها عندما كنا أطفالاً، ومن غريبِ أمرها أن دائرة الرقابة، في وقتها، شطبت كلمة إسرائيل في كل موضع وردت فيه بقلم أسود داكن، وبصبرٍ وإتقان يدعوان إلى الإعجاب. حيثما حصل هذا، كان السياق يؤكد أن الكلمة المطموسة هي إسرائيل. أي قارئ، مهما تصحّرت ثقافته، سيعلم أن أسفل هذا السواد الداكن توجد كلمة إسرائيل، فما الغاية الموضوعية التي تخدمها الخربشة فوق الكلمة؟ إلى أي حد ساهم سلوكٌ كهذا بنزع الشرعية عن الدولة المذكورة؟ أو زاد من متانة رفض الاعتراف بها؟ أو عبّر عن رمزية من أي نوع؟ يبدو الأمر أقرب إلى طقسٍ من طقوس الشعوذة. وكأن طمس الاسم يُسهم بطمس صاحب الاسم، أو يحصّن الناس ضده. على المنوال نفسه، أمضينا عقوداً نسمي السرطان "ذلك المرض"، وبقينا نموت بالورم الخبيث. ما يجمع إسرائيل مع ذلك المرض ليس الأذية التي يتسببان بها وحسب، وإنما مقاربتنا أحياناً للتعاطي مع الإثنين.
ـ ليس ربط الموضوع بثقافة السحر وتاريخه مبالغة. كل ما عليك فعله هو الاستماع للخطاب
السياسي الشائع هذه الأيام، والتنبه للتكرار الوسواسي والقهري لمصطلحات بعينها. في اليمن، تحولت كلمة "الشرعية" من مصطلح إلى تعويذة. لم يكن ممكناً، حتى وقت قريب، تسمية السلطة القائمة في جزء من البلاد سلطةً أو نظاماً، فاسمها "الشرعية"؛ هكذا، بأل التعريف. لا أعرف مصطلحاً أكثر تجريداً وإرهافاً من مصطلح الشرعية، لكن الشرعية في اليمن اكتست فجأة باللحم والعظم، ونمت لها أذرع وأقدام، وصارت تستورد مدرعاتٍ وتشتري ولاءاتٍ، وتقصف مدنا، وتحاور وتناور وتغامر، وربما تُخزّن أيضاً. وعندما تسمع عبارة "دبابات الشرعية تحاصر مليشيات اللاشرعية والمواطنون يناشدون الشرعية تكثيف الهجوم"، عندما تسمع عبارة كهذه في نشرة أخبار رسمية تدرك أن الخط الفاصل بين الجد والفكاهة انمحل تماماً. هناك حاجة في إعلامنا، تكاد تكون طفولية، لتأكيد الموقف السياسي للجهة المموِّلة، ليس في روح الكلام، ولا في كل جملة من الكلام، وإنما حتى في كل كلمة من الكلام.
ـ في سورية، أخذ موضوع التسميات وتسييس المصطلحات أبشع صوره حتماً. بإمكانك أن تجد ناشطاً إعلامياً ثورياً يُبدي غضبه، لأن ناشطاً آخر استخدم مصطلح قتيل بدل فطيس، عند الإشارة إلى قتلى الخصم. وصار مصطلح "مكان الدعس" مفردةً تراها في جداول تؤرشف للمعارك الأهلية وأماكن سقوط قتلاها. ومع كثرة الاستخدام، تزول الصفة المجازية الصادمة لهذه الكلمات، ويتم إدماجها باللغة الحرفية. هذا، عملياً، هو التطبيع اللغوي مع الإجرام.
ـ لماذا نتحسّس من تسمية خصومنا بالأسماء التي انتقوها لأنفسهم؟ ألهذا الحد نزدري الناس، ونظن أنهم سيصدقون التسمية؟ خاطب النص القرآني أبا لهب بلقبه ذاك، "أبو لهب"، وليس "المدعو أبو لهب"، على الرغم من أن اللقب كان يشير إلى إشراق وجه المذكور وجمالِه.
ـ في كل الصراعات، تبرز تسميات مهينة للخصوم، ويتم أدلجة اللغة وتسييس القاموس؛ هذه أساسيات في الدعاية الحربية، ولا غرابة في ذلك. لكن المشكلة، كما دوماً في منطقتنا، هي المبالغة الصبيانية، والإسراف التافه في كل شيء، والدفع بعيداً جداً بممارسات تتحول من مجرد ضجيج مُصاحب إلى صرير يصمّ الآذان، ودخان يحجب الرؤية. عندما تصبح اللغة ملوَّثة لهذا الحد بالدعاية، لا يعود التفكير العقلاني أو الهادئ في أي شيء ممكناً.
ـ اللغة أداة قوية، لكنها ليست لا نهائية القوة. من يحاول أن يدفع بها إلى أبعد من حدودها قد يخسرها تماماً. في العلوم الصيدلانية، تشيع مقولة: "السُّمّية في الكمّية"، لأن سموما كثيرة هي في واقع الأمر أدوية تؤخذ بمقادير مُفرِطة. الإسراف في تسييس المصطلحات والدعاية اللغوية يجوّف الممارسة من قيمتها.
ـ ليس تحييد القاموس عن الأعمال القتالية ترفاً لغوياً ولا مؤشراً لضعف إيماننا بالمعركة. إنه صون لقدرتنا على التفكير بالمعركة، فليس بالدعاية وحدَها تُخاض المعارك.
ـ في مكتبة منزلنا موسوعة أجنبية قديمة، ابتعناها عندما كنا أطفالاً، ومن غريبِ أمرها أن دائرة الرقابة، في وقتها، شطبت كلمة إسرائيل في كل موضع وردت فيه بقلم أسود داكن، وبصبرٍ وإتقان يدعوان إلى الإعجاب. حيثما حصل هذا، كان السياق يؤكد أن الكلمة المطموسة هي إسرائيل. أي قارئ، مهما تصحّرت ثقافته، سيعلم أن أسفل هذا السواد الداكن توجد كلمة إسرائيل، فما الغاية الموضوعية التي تخدمها الخربشة فوق الكلمة؟ إلى أي حد ساهم سلوكٌ كهذا بنزع الشرعية عن الدولة المذكورة؟ أو زاد من متانة رفض الاعتراف بها؟ أو عبّر عن رمزية من أي نوع؟ يبدو الأمر أقرب إلى طقسٍ من طقوس الشعوذة. وكأن طمس الاسم يُسهم بطمس صاحب الاسم، أو يحصّن الناس ضده. على المنوال نفسه، أمضينا عقوداً نسمي السرطان "ذلك المرض"، وبقينا نموت بالورم الخبيث. ما يجمع إسرائيل مع ذلك المرض ليس الأذية التي يتسببان بها وحسب، وإنما مقاربتنا أحياناً للتعاطي مع الإثنين.
ـ ليس ربط الموضوع بثقافة السحر وتاريخه مبالغة. كل ما عليك فعله هو الاستماع للخطاب
ـ في سورية، أخذ موضوع التسميات وتسييس المصطلحات أبشع صوره حتماً. بإمكانك أن تجد ناشطاً إعلامياً ثورياً يُبدي غضبه، لأن ناشطاً آخر استخدم مصطلح قتيل بدل فطيس، عند الإشارة إلى قتلى الخصم. وصار مصطلح "مكان الدعس" مفردةً تراها في جداول تؤرشف للمعارك الأهلية وأماكن سقوط قتلاها. ومع كثرة الاستخدام، تزول الصفة المجازية الصادمة لهذه الكلمات، ويتم إدماجها باللغة الحرفية. هذا، عملياً، هو التطبيع اللغوي مع الإجرام.
ـ لماذا نتحسّس من تسمية خصومنا بالأسماء التي انتقوها لأنفسهم؟ ألهذا الحد نزدري الناس، ونظن أنهم سيصدقون التسمية؟ خاطب النص القرآني أبا لهب بلقبه ذاك، "أبو لهب"، وليس "المدعو أبو لهب"، على الرغم من أن اللقب كان يشير إلى إشراق وجه المذكور وجمالِه.
ـ في كل الصراعات، تبرز تسميات مهينة للخصوم، ويتم أدلجة اللغة وتسييس القاموس؛ هذه أساسيات في الدعاية الحربية، ولا غرابة في ذلك. لكن المشكلة، كما دوماً في منطقتنا، هي المبالغة الصبيانية، والإسراف التافه في كل شيء، والدفع بعيداً جداً بممارسات تتحول من مجرد ضجيج مُصاحب إلى صرير يصمّ الآذان، ودخان يحجب الرؤية. عندما تصبح اللغة ملوَّثة لهذا الحد بالدعاية، لا يعود التفكير العقلاني أو الهادئ في أي شيء ممكناً.
ـ اللغة أداة قوية، لكنها ليست لا نهائية القوة. من يحاول أن يدفع بها إلى أبعد من حدودها قد يخسرها تماماً. في العلوم الصيدلانية، تشيع مقولة: "السُّمّية في الكمّية"، لأن سموما كثيرة هي في واقع الأمر أدوية تؤخذ بمقادير مُفرِطة. الإسراف في تسييس المصطلحات والدعاية اللغوية يجوّف الممارسة من قيمتها.
ـ ليس تحييد القاموس عن الأعمال القتالية ترفاً لغوياً ولا مؤشراً لضعف إيماننا بالمعركة. إنه صون لقدرتنا على التفكير بالمعركة، فليس بالدعاية وحدَها تُخاض المعارك.
دلالات
مقالات أخرى
22 ديسمبر 2018
27 اغسطس 2018
13 مايو 2018