القصة الكاملة لانفجار الكرادة: فساد وشبهات تواطؤ وتحريف للحقائق

عثمان المختار (العربي الجديد)
عثمان المختار
صحافي عراقي متخصص بصحافة البيانات وتدقيق المعلومات. مدير مكتب "العربي الجديد" في العراق.
09 يوليو 2016
C5921E74-15DB-44F4-B38C-9D381A980CD5
+ الخط -
تكشف معلومات خاصة حصل عليها "العربي الجديد"، من مصادر رفيعة المستوى في أمانة مجلس الوزراء العراقي، ووزارة الصحة، وقيادة عمليات بغداد، فضلاً عن مصادر في إدارة مقابر النجف، والكرخ، وقلعة سكر في العمارة، ومقبرة المسيحيين، مجموعة من الحقائق التي تطرح تساؤلات جدية حول وجود خرق أمني قد يكون فيه شبهات تواطؤ أدّى إلى المجزرة الإرهابية التي وقعت في حي الكرادة ليل السبت ــ فجر الأحد في قلب بغداد. معلومات تُظهر أن الاعتداء ذهب ضحيته مواطنون عراقيون من جميع الطوائف والأعراق والقوميات تقريباً، وليسوا من طائفة واحدة، وهو ما ترغب أطراف في تجاهله لتصويره على أنه استهداف لطائفة واحدة، وهو ما وظفته مليشيات وأحزاب وشخصيات لتبرير جرائم انتقامية ذات طابع مذهبي لا تزال مستمرة في مناطق عراقية عدة. أكثر من ذلك، فإنّ الخلاصة الأبرز للمعلومات هي أن الإدارة الأمنية والسياسية في العراق متهرئة بشكل غير مسبوق، وهو ما يكشف عنه تضارب الروايات المسربة عن الجريمة والمسؤولين عنها وما تلاها من استقالات وإقالات أطاحت آخرها وزير الداخلية محمد الغبان ومسؤولي الملف الأمني للعاصمة العراقية.

ويعتبر التفجير الأعنف من نوعه من حيث عدد الضحايا، منذ احتلال العراق عام 2003، وبدء دوامة العنف الأعمى في البلاد لغاية الآن، إذ بلغ عدد القتلى 292 وأكثر من 200 جريح، وفقاً لوزيرة الصحة العراقية عديلة حمود. كما يعد التفجير الأكبر من حيث عدد القتلى، بعد تفجير مماثل في حي الزنجيلي الشهير بمدينة الموصل، نهاية يناير/كانون الثاني 2008، والذي حصد 400 قتيل وجريح، بعضهم دُفنوا أحياء داخل منازلهم، وفقاً لما راجعته "العربي الجديد" مع سجلات وزارة الداخلية العراقية في بغداد التي توثق الأعمال الإرهابية في البلاد.

دماء مختلطة
ووفقاً لمصادر وزارة الصحة العراقية في شعبة الإحصاء، فإن مَن تمّ التعرف عليهم من الضحايا البالغ عددهم 292 شخصاً هم 115، وهناك 177 ضحية متفحّمون أو تمزّقوا أشلاء، أو اختفت معالم وجوههم، ما دفع وزارة الصحة إلى طلب المساعدة من دولتين، إحداهما عربية لمعرفة هوية أصحاب هذه الأشلاء من خلال فحص الحمض النووي (دي أن آي).

وتم تسليم الضحايا الذين تم التعرف عليهم إلى ذويهم بمراسم رسمية. وتظهر هويات الضحايا أنهم ليسوا من طائفة واحدة، إذ تؤكد الأسماء والألقاب أنهم من السنة، والشيعة، والمسيحيين، وهناك عدد قليل من الصابئة المندائيين، والأكراد، وهو ما يتوافق مع طبيعة الحي الذي يُعتبر أحد الأحياء التي عرفت بمصطلح دخيل بعد الاحتلال الأميركي للبلاد بعبارة "الأحياء المختلطة".

ووفقاً لمصدر رفيع المستوى في وزارة الصحة العراقية، فإن "محاولات توظيف الحدث الإرهابي من قبل المليشيات والأحزاب السياسية لمكاسب انتخابية ولخلق فتنة طائفية جديدة بالعراق دفعتنا إلى الكشف عن هوايات الضحايا الذين تسعى أطراف في الحكومة والأحزاب إلى تحويلها لمجزرة طائفية تخصّ طائفة معينة دون سواها"، على حدّ قوله. وتتحفظ "العربي الجديد" عن ذكر الضحايا بالأرقام من كل طائفة أو دين، وتكتفي بالقول إنهم عراقيون من مختلف الطوائف سقطوا بدوامة الإرهاب الذي لا يميّز بين طائفة وقومية.


تكتم على التحقيقات
بحسب رواية الحكومة العراقية الرسمية، فإن التفجير وقع فجر الأحد، 3 يوليو/تموز الحالي، بواسطة سيارة "ميني باص"، من طراز "ستار أكس"، يقودها انتحاري، وفجّرها عند مركز تسوّق للملابس والعطور يُعرف باسم "هادي سنتر". ويضم المتجر عشرات المحال التجارية وسط حي الكرادة على الشارع الرئيس المؤدي إلى ساحة كهرمانة شرقاً، وشارع أبو نؤاس شمالاً، وفندق بابل غرباً. وقال المتحدث باسم قيادة عمليات بغداد، في مؤتمر صحافي، أول من أمس الخميس، إن الانفجار ناجم عن استخدام مادة "نيترات الأمونيا"، واصفا التفجير بأنّه "نافوري" بمعنى عمودي. غير أن مصادر وزارة الداخلية العراقية تؤكد أن "لجان التحقيق لم تتمكن حتى الآن من التوصل، بشكل قطعي، إلى نوع المتفجرات المستخدمة أو كيفية وصول السيارة إلى المنطقة، فضلاً عن وجود ثغرات في الرواية الحكومية الرسمية تحتاج الى إيضاحات. لكن التناحر الحالي، بحسب المصادر ذاتها، بين وزير الداخلية من جهة ورئيس الوزراء حيدر العبادي من جهة أخرى يدفع إلى مزيد من الغموض.

ويقول ضابط رفيع المستوى في وزارة الداخلية العراقية لـ"العربي الجديد"، في ثلاثة اتصالات هاتفية، أحدها من مكان الاعتداء، إن "هجوم نيترات الأمونيا يتطلب وجود رائحة كريهة جداً بعد الانفجار، وهو ما لم يحدث. كما أن نيترات الأمونيا لا يمكن أن تتفاعل كثيراً، وتنتشر على مدى 800 متر، وتحرق كل من يصادفها". ويضيف أن "السيارة انفجرت على حافة الطريق أمام المركز، وكان بإمكان الانتحاري ركنها كما باقي السيارات الموجودة والترجل منها وسيكون الأمر مشابهاً كما لو كان داخلها وهو ما يثير الحيرة أكثر"، على حدّ قوله.

ويوضح أنّه "عند مراجعة كاميرات المراقبة، بدت النيران محصورة على مربع مقابل للمجمع التجاري (هادي سنتر)، في أولى لحظات الانفجار، كيف انتقلت للجهة المقابلة؟ وهناك مسافة لا تقل عن 27 متراً بينهما. وإذا انتقلت لا يمكن أن تحدث هذا الدمار وتُوقع هذا العدد من القتلى داخل الدكاكين الداخلية للمجمع المقابل". ويعتبر الضابط في وزارة الداخلية أن "فرضية استخدام مادة السي فور أو التي أن تي باتت غير واردة، لأنه لا يوجد في مركز الانفجار أي حفرة كعادة التفجيرات التي تنفذ بهذه المواد"، على حدّ تعبيره. ويرى المصدر ذاته أنّ "ثغرات كبيرة تكمن في الراوية الحكومية، كما أنّ فريق التحقيق المؤلف من وزارة الداخلية، والدفاع، والمخابرات، والدفاع المدني لم يتوصلوا إلى شيء بسبب بدائية الأسلوب والمواد المستخدمة في الكشف بمسرح الاعتداء".

ويلفت الضابط إلى أن "هناك معلومات تخفيها الحكومة بعد سيطرتها على ملف التحقيق الذي يشرف عليه ضباط جميعهم من حزب الدعوة أو مقربون من زعيم الحزب، نائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي ولا تفصح عنها، ومنها: من أين جاءت السيارة، وكيف تمكّنت من عبور 12 حاجز تفتيش، بينها 9 حواجز رئيسية يتم تفتيش السيارات فيها يدوياً؟ ولماذا أُغلق الشارع قبل ساعة من التفجير؟ ومن هو الضابط الذي أمر عبر جهاز المناداة لنقطة التفتيش بفتحه مجدداً".


ويشير إلى أن "سيارات الإطفاء استخدمت الماء العادي لدى وصولها، وهو ما أدى إلى اتساع نطاق اللهب، وتعذّر الدخول إلى المباني المشتعلة لإنقاذهم"، متسائلاً عن سر عدم استجواب مدير الدفاع المدني، اللواء كاظم سلمان المقرّب من المالكي. ويكشف عن أن "الضباط والمنتسبين المحتجزين على ذمة التحقيق أكدوا أن السيارة المعنية كان يقودها شخص عراقي يحمل هوية حكومية تابعة لأحد الأجهزة الأمنية".

وبعد يومين من التفجير، قدّم وزير الداخلية العراقي محمد الغبان استقالته، يوم الثلاثاء، ملقياً اللوم على وزارة الدفاع التي تمسّكت بالملف الأمني للعاصمة، أعقبه ببيان آخر، يوم الجمعة، اتهم فيه رئيس الوزراء حيدر العبادي بـ"تحريف الحقائق وربطه الاستقالة بتفجير الكرادة لإلقاء اللوم على وزير الداخلية وتحميله المسؤولية". ووفقاً لبيان وزير الداخلية المستقيل، فإن "رئيس الوزراء هو المسؤول عن ملف الأمن، وتصدر الأوامر والتوجيهات عنه في كل صغيرة وكبيرة"، مشيراً إلى أنه قدّم للعبادي رسالة مفصّلة عن الخلل الأمني، وضرورة تحسين الأمن، وإيقاف نزيف الأبرياء". وبحسب بيان وزير الداخلية، فإن العبادي "لم يكترث بالرسالة ولم يكلّف نفسه للاتصال بي على الرغم من أني تأكدت أنه اطلع على الرسالة المبعوثة له بتاريخ الخامس من الشهر الحالي".

لكن مصادر في مكتب رئيس الوزراء تحدثت لـ"العربي الجديد" عن "الساعات الأخيرة التي سبقت المؤتمر الصحافي لوزير الداخلية الذي أعلن فيه استقالته". ووفقاً للمصادر، فإن مشادة كلامية حدثت بين العبادي والوزير، إذ اتهم الأخير العبادي بأنه يتحمل المسؤولية ولم يسمع التحذيرات والمطالبات التي وجهت له بخصوص أمن العاصمة والتهديدات الإرهابية"، لافتاً إلى أن عملية إقالة العبادي لقائد عمليات بغداد عبد الأمير الشمري، ورئيس منظومة الاستخبارات، وقائد الأمن الداخلي، ومشرف قاطع الكرادة في الداخلية، أمس الجمعة، هي محاولة ضمن محاولات امتصاص الغضب والتنصل من المسؤولية".

وأطلق أهالي الكرادة وناشطون وإعلاميون حملة تطالب بتحقيق دولي في التفجير معتبرين أن هناك مؤامرة ولا يمكن اعتباره تفجيراً إرهابياً عابراً، على الرغم من تبني تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الاعتداء. ولم يكتف الأهالي بطلب تحقيق دولي محايد، بل طالبوا بحضور لجنة دولية متخصصة لفحص عشرات الجثث المتفحمة لمعرفة ملابسات الانفجار. ونشر ناشطون مقاطع تسجيلية أظهرت اللحظات الأولى للانفجار، ولم يكن بالحجم الذي أحرق بعد ذلك مجمّعَين تجاريَين كبيرَين، وقتل كل من كان فيهما حرقاً، ما أثار علامات استفهام عديدة، بحسب الأهالي. ويقول أحد أبناء الكرادة، حسام الكرادي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك أسراراً خطيرة وراء هذا التفجير الذي أثار علامات استفهام عديدة لدينا، منها أن الشارع الذي حصل فيه التفجير كان مغلقاً ووصلت أوامر للقوة المسؤولة عنه تقضي بفتحه، وبعدها بدقائق حصل التفجير". ويتساءل الكرادي أنه "في بداية التفجير لم يكن الحريق بهذا الحجم الهائل، فكيف تسبب بإحراق مجمّعين تجاريَّين ضخمين على الرغم من بعد المسافة بينهما نسبياً؟ ولماذا أغلب جثث الضحايا تفحّمت بالكامل"؟


ووسط جدل كبير وتحليلات مطوّلة حول نوعية التفجير والمواد المستخدمة فيه، وكيفية دخول السيارة المفخخة إلى المنطقة على الرغم من حصول تفجيرات سابقة في المنطقة لكنها ليست بهذا الحجم، أثار استغراب محللين وخبراء المواد المتفجرة، أن مكان الانفجار، على الرغم من سماع دويّه على مسافات بعيدة في بغداد، لم يترك أي أثر على أرضية الشارع، على خلاف عشرات التفجيرات السابقة. ويضاف إلى ذلك، إحداثه حريقاً هائلاً التهم كل المجمعات التجارية والمحال القريبة وحتى البعيدة نسبياً عن مكان التفجير.

ويعتبر بعض المحللين أن التفجير حدث بمواد متطورة بهدف قتل أكبر عدد من الناس. ويقول خبراء في علم الكيمياء لـ"العربي الجديد" إن التفجير قد يكون حصل بصهريج محمّل بالغاز مع مواد شديدة الانفجار، ما أحدث كرة لهب كبيرة جداً بقطر كبير التهم المجمعات والمحال التجارية بالكامل وأحرق كل من كان فيها. لكن آخرين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن هذا التفجير حصل بمواد شديدة الاحتراق والاشتعال منها مادة الفسفور مخلوطة بمادة الـC4 شديدة الانفجار، من دون شظايا بهدف إحداث كتلة لهب هائلة في المكان. ولم تتوقف التحليلات عند هذا الحد، بل يشير آخرون إلى أن التفجير حصل بمادة النابالم الحارقة مع مادة الـC4، ليخالفهم خبراء آخرون قالوا: "لو كان التفجير بمادة C4 لانهارت كافة المباني المحيطة بالمكان.

توظيف طائفي ومكاسب حزبية
واستغلت مليشيات "الحشد الشعبي" وأحزاب دينية أبرزها "الدعوة"، و"بدر"، و"الفضيلة"، الاعتداء الإرهابي لحشد الشارع طائفياً وتصويره على أن "الاعتداء سني استهدف الشيعة"، رافضين الكشف عن هويات الضحايا الذين هم في الحقيقة أعداد متقاربة بين الطوائف المذكورة. وشهدت بغداد ومحافظات عدة عمليات انتقامية تمثّلت بقتل نازحين، وخطف مواطنين من بغداد، وديالى، وبابل، والبصرة، وواسط، والأنبار، وصلاح الدين، وقتلهم، وتفجير جوامع، فضلاً عن تنفيذ الحكومة عمليات إعدام سريعة لنزلاء متهمين بالإرهاب. تضاف إلى ذلك تصريحات أطلقها قادة حزب الله العراق، والعصائب، وأبو الفضل العباس، وبدر، توعدوا بما وصفوه "أخذ الثأر للضحايا قريباً"، وهو ما دفع سكان العاصمة إلى اتخاذ أعلى درجات الحيطة والحذر.

ويصف القيادي في التيار المدني العراقي وائل إبراهيم التحشيد الطائفي، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحكومة تحاول تهدئة الشارع بالإعدامات اليومية منذ يوم الحادث حتى الآن. والمليشيات تشفي عطشها للدماء من خلال قتل طائفي يومي لمساكين لا ذنب لهم. والأحزاب الدينية تسعى لكسب أصوات الشيعة بالانتخابات والتأييد لإسقاط خصومها داخل التحالف الوطني. كل ذلك على حساب دماء الضحايا"، على حدّ تعبيره.

ذات صلة

الصورة
أسلحة للعراق الجيش العراقي خلال مراسم بقاعدة عين الأسد، 29 فبراير 2024 (أحمد الربيعي/فرانس برس)

سياسة

كشفت مصادر عراقية لـ"العربي الجديد"، وجود ضغوط إسرائيلية على دول أوروبية وآسيوية لعرقلة بيع أسلحة للعراق وأنظمةة دفاع جوي.
الصورة

سياسة

أعلنت وزارة الدفاع التركية، ليل أمس الأربعاء، قتل العديد من مسلحي حزب العمال الكردستاني وتدمير 32 موقعاً لهم شمالي العراق.
الصورة
تظاهرة في بغداد ضد العدوان على غزة ولبنان، 11 أكتوبر 2024 (أحمد الربيعي/ فرانس برس)

منوعات

اقتحم المئات من أنصار فصائل عراقية مسلحة مكتب قناة MBC في بغداد، وحطموا محتوياته، احتجاجاً على عرضها تقريراً وصف قيادات المقاومة بـ"الإرهابيين".
الصورة
زعيم مليشيا "أنصار الله الأوفياء" حيدر الغراوي (إكس)

سياسة

أدرجت وزارة الخارجية الأميركية حركة "أنصار الله الأوفياء" العراقية وزعيمها حيدر الغراوي، على قائمة المنظمات والشخصيات الإرهابية.
المساهمون