15 فبراير 2015
القمة العربية... وجهة نظر موريتانية
الجدل الدائر في العالم العربي اليوم حول مدى نجاح قمة نواكشوط من عدمه، والذي وصل إلى التهكم والتهجم بحق الدولة المضيفة، وردود الموريتانيين الحادّة التي وصلت إلى حد المزايدة، كلها أمور كشفت عن خلل كبير في العلاقات العربية، ولم تستطع الخطابات الديماغوجية أن تحجبه أو تغطي عليه.
منذ زمن، وواقع العرب وقممهم مثار سخريةٍ على مختلف المستويات، غير أن القمة العربية في موريتانيا، أخيراً، واكبها جدل آخر، ليس بخصوص حضورها ولا مخرجاتها فحسب، وإنما بالطريقة التي عقدت فيها (في خيمة) واختزال وقتها (يوم بدل اثنين)، وما اعتبره الموريتانيون "دونية" ينظر بها بعض العرب إلى بلادهم، وصلت إلى حد إطلاق أوصافٍ غير مهذبةٍ على موريتانيا وشعبها.
ربما، لهذا الجدل ما يبرّره وللحملات الإعلامية المتبادلة (شارك فيها بعض مشاهير الإعلام العربي) ما يبرّرها أيضاً، ذلك أن حاجزاً سميكاً ما زال يفصل العرب عن موريتانيا، إضافة إلى الحساسيات التقليدية التي لا تكاد تخلو منها العلاقات البيْنية العربية، ليس على المستويات الرسمية فقط، وإنما على المستويات الشعبية، خصوصاً في المقاهي والمجالس الخاصة، وهي نزعة غير جديدة على العرب، ويطلق عليها فى اللهجة الحسّانية الموريتانية (تحاسيد أولاد العم)، أي حسد أبناء العم، وتعني حالة الشقاق غير المفهومة بين أبناء العمومة، والتي ترجع، في معظم خلفياتها وتجلياتها، إلى أسبابٍ صغيرةٍ وتافهةٍ، لكنها موجودة ومؤثرة.
حالة من فقدان البوصلة ميزت هذا الجدل الدائر عربياً، حالياً في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي بين الموريتانيين وغيرهم من العرب، وذلك لاختلاف المنظور والمقياس الذي ينظر به كل من الطرفين إلى ما حدث في نواكشوط، ذلك أن القمة العربية في نواكشوط، في نظر الموريتانيين، ليست كأي قمة، ليس تعلقا بالقمم العربية، ولا انخداعاً بحقيقة النظام العربي الرسمي، وإنما لاعتباراتٍ وطنيةٍ، وحساسيات تاريخية، تجعل الحدث يحمل دلالاتٍ وأبعاداً غير تقليدية، على الرغم من تكرار المشهد المفعم بالرتابة والملل.
فموريتانيا حرمت من العضوية الكاملة في جامعة الدول العربية 13 عاماً، وانتظرت حقها في
استضافة العرب أكثر من 40 عاماً، ولم تتخلص تماما من مطامح جيرانها العرب الذين يتصارعون على استقطابها ترجيحا لكفة هذا أو ذاك، فيما يتعلق بنزاع الصحراء الغربية، ولم يشفع لموريتانيا تخليها عن أرضها طواعيةً، وانسحابها مبكّرا من "صراع الأخوة الأشقاء"، وانتهاجها سياسة الحياد الإيجابي فى هذا الملف، منذ انقلاب 1978. فالبلاد المتنوعة عرقياً لا تزال غير محصّنة تماماً، ولا تزال تعيش حالة عدم يقين، بفعل حكم التحدّيات البنيوية التي تواجهها، في الوقت الذي لا تزال أحزاب مغربية تكرّر، بين حين وآخر، ضرورة عودة "موريطانيا" للعرش المغربي. ولولا الموقف الفرنسي الحاسم، غداة الاستقلال، لما استطاعت موريتانيا النجاة من خطط إلحاقها بالمغرب، ولتم القضاء مبكّراً على حلم إقامة دولة "البيظان"، كما كان يسميها الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداه، كما أن أطرافاً مهمة فى الجزائر تسعى إلى توريط موريتانيا في نزاعٍ، لا تستطيع تحمله لأكثر من سبب.
الذاكرة الموريتانية، إذن، مثخنة بمطامع الأشقاء و"حسد أبناء العم" وتلكؤ العرب فى منح موريتانيا العضوية الدائمة في جامعة الدول العربية، من 1960 إلى 1973، واكبتها حملة تشكيك في عروبة موريتانيا، ساهمت فيها شخصيات وصحف عربية خلال العقود الماضية، وما زال صداها يسمع بين حين وآخر. هذا ما جعل الموريتانيين يعتبرون استضافة بلادهم القمة حدثاً يتجاوز الطابع البروتوكولي للقمم العربية، بل ارتقى فيه بعضهم إلى مستوى "الاستقلال الثاني للبلاد".
زد على ذلك أن الموريتانيين يشعرون بخيبة الأمل في أشقائهم العرب، ليس على صعيد التأخر في الاعتراف الرسمي، وإنما غياب ذكر (وتقدير) الإسهامات العلمية والأدبية التي قدّمها الموريتانيون للحركة العلمية والأدبية في العالم العربي، خصوصاً فى الحجاز ومصر والعراق، وهي إحدى تجليات (وروافد) "الثقافة المحظرية الشنقيطية" التي مكّنت الشعب الموريتاني الذي كان يعيش شبه قطيعةٍ مع العالم العربي من الحفاظ على ثقافته العربية الإسلامية عدة قرون، بل والنجاة بنفسه وبذاته الحضارية من المشاريع الثقافية الإلحاقية الاستعمارية التي فتكت بشعوبٍ ومجتمعات عديدة، خصوصاً في شمال أفريقيا وغربها.
هواجس شكلت خلفية لموقف الموريتانيين، وحماستهم "المبالغ فيها"، تجاه قمة نواكشوط، خصوصاً أن مسؤولية موريتانيا تتوقف موضوعياً عند الجوانب التنظيمية المتعلقة بالقمة، ويبقي ما يتعلق بمستوى الحضور والمخرجات النهائية مسؤوليةً عامةً، تقع على عاتق جميع الدول الأعضاء، وليس من المنصف محاسبة موريتانيا على حالة "الترهّل" الحالية التي يعيشها العرب والجامعة منذ بعض الوقت.
تشكّل مسألة أخرى مثالاً حياً على ما يمكن وصفه بـ"سوء التفاهم المزمن" بين العرب وموريتانيا، وهو عقد القمة العربية تحت "خيمة"، وليس في قاعة مثلاً، ذلك أن الخيمة فى الثقافة الشعبية الموريتانية ترمز للأصالة وكرم الضيافة، ولا تحمل أي شحنةٍ سلبيةٍ، كما هو الحال عند بعض العرب، مع أن المسألة شكلية، وتتعلق بـ"إجراء تنظيمي" قابل للأخذ والرد. لكن، ليس من زاوية عدم قدرة موريتانيا على توفير قاعة اجتماعات كبرى، كما تخيّل بعضهم.
تأتي، في السياق نفسه، مبالغة بعض الموريتانيين فى الدفاع عن حالة "الانكشاف والبؤس السياسي" التي ظهر عليها العرب في قمة نواكشوط، لأن النقد هنا موجّه، بالأساس، للحالة العربية، وللحظة العربية بكل تجلياتها وأبعادها. وكذا الحساسية المفرطة للموريتانيين من النقد الموجّه لهم، حكومة أو شعباً، وربط ذلك بالإساءة والتهجم، مع أن الفرق واضح بين المسألتين.
كما أن مسارعة العرب إلى إعلان فشل قمة نواكشوط، لأنها عقدت في خيمةٍ، أو الطعن في قدرة موريتانيا على عقدها فنياً ولوجستياً، هي جزء من حالة سوء التفاهم التي جاءت عليها السطور السابقة. ذلك أن موريتانيا، وعلى الرغم من أنها بلد فقير، وينخره الفساد سياسياً واقتصادياً، مثل أغلب الدول العربية، لكنها أيضا دولة تمتلك مقومات مالية وبشرية عديدة، وقادرة على أكثر من مجرد عقد قمة للقادة العرب، وتوفير قاعة لإلقاء خطاباتٍ وبياناتٍ، تعوّدت عليها الشعوب العربية، ولم تعد تقدم أو تؤخر.
منذ زمن، وواقع العرب وقممهم مثار سخريةٍ على مختلف المستويات، غير أن القمة العربية في موريتانيا، أخيراً، واكبها جدل آخر، ليس بخصوص حضورها ولا مخرجاتها فحسب، وإنما بالطريقة التي عقدت فيها (في خيمة) واختزال وقتها (يوم بدل اثنين)، وما اعتبره الموريتانيون "دونية" ينظر بها بعض العرب إلى بلادهم، وصلت إلى حد إطلاق أوصافٍ غير مهذبةٍ على موريتانيا وشعبها.
ربما، لهذا الجدل ما يبرّره وللحملات الإعلامية المتبادلة (شارك فيها بعض مشاهير الإعلام العربي) ما يبرّرها أيضاً، ذلك أن حاجزاً سميكاً ما زال يفصل العرب عن موريتانيا، إضافة إلى الحساسيات التقليدية التي لا تكاد تخلو منها العلاقات البيْنية العربية، ليس على المستويات الرسمية فقط، وإنما على المستويات الشعبية، خصوصاً في المقاهي والمجالس الخاصة، وهي نزعة غير جديدة على العرب، ويطلق عليها فى اللهجة الحسّانية الموريتانية (تحاسيد أولاد العم)، أي حسد أبناء العم، وتعني حالة الشقاق غير المفهومة بين أبناء العمومة، والتي ترجع، في معظم خلفياتها وتجلياتها، إلى أسبابٍ صغيرةٍ وتافهةٍ، لكنها موجودة ومؤثرة.
حالة من فقدان البوصلة ميزت هذا الجدل الدائر عربياً، حالياً في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي بين الموريتانيين وغيرهم من العرب، وذلك لاختلاف المنظور والمقياس الذي ينظر به كل من الطرفين إلى ما حدث في نواكشوط، ذلك أن القمة العربية في نواكشوط، في نظر الموريتانيين، ليست كأي قمة، ليس تعلقا بالقمم العربية، ولا انخداعاً بحقيقة النظام العربي الرسمي، وإنما لاعتباراتٍ وطنيةٍ، وحساسيات تاريخية، تجعل الحدث يحمل دلالاتٍ وأبعاداً غير تقليدية، على الرغم من تكرار المشهد المفعم بالرتابة والملل.
فموريتانيا حرمت من العضوية الكاملة في جامعة الدول العربية 13 عاماً، وانتظرت حقها في
الذاكرة الموريتانية، إذن، مثخنة بمطامع الأشقاء و"حسد أبناء العم" وتلكؤ العرب فى منح موريتانيا العضوية الدائمة في جامعة الدول العربية، من 1960 إلى 1973، واكبتها حملة تشكيك في عروبة موريتانيا، ساهمت فيها شخصيات وصحف عربية خلال العقود الماضية، وما زال صداها يسمع بين حين وآخر. هذا ما جعل الموريتانيين يعتبرون استضافة بلادهم القمة حدثاً يتجاوز الطابع البروتوكولي للقمم العربية، بل ارتقى فيه بعضهم إلى مستوى "الاستقلال الثاني للبلاد".
زد على ذلك أن الموريتانيين يشعرون بخيبة الأمل في أشقائهم العرب، ليس على صعيد التأخر في الاعتراف الرسمي، وإنما غياب ذكر (وتقدير) الإسهامات العلمية والأدبية التي قدّمها الموريتانيون للحركة العلمية والأدبية في العالم العربي، خصوصاً فى الحجاز ومصر والعراق، وهي إحدى تجليات (وروافد) "الثقافة المحظرية الشنقيطية" التي مكّنت الشعب الموريتاني الذي كان يعيش شبه قطيعةٍ مع العالم العربي من الحفاظ على ثقافته العربية الإسلامية عدة قرون، بل والنجاة بنفسه وبذاته الحضارية من المشاريع الثقافية الإلحاقية الاستعمارية التي فتكت بشعوبٍ ومجتمعات عديدة، خصوصاً في شمال أفريقيا وغربها.
هواجس شكلت خلفية لموقف الموريتانيين، وحماستهم "المبالغ فيها"، تجاه قمة نواكشوط، خصوصاً أن مسؤولية موريتانيا تتوقف موضوعياً عند الجوانب التنظيمية المتعلقة بالقمة، ويبقي ما يتعلق بمستوى الحضور والمخرجات النهائية مسؤوليةً عامةً، تقع على عاتق جميع الدول الأعضاء، وليس من المنصف محاسبة موريتانيا على حالة "الترهّل" الحالية التي يعيشها العرب والجامعة منذ بعض الوقت.
تشكّل مسألة أخرى مثالاً حياً على ما يمكن وصفه بـ"سوء التفاهم المزمن" بين العرب وموريتانيا، وهو عقد القمة العربية تحت "خيمة"، وليس في قاعة مثلاً، ذلك أن الخيمة فى الثقافة الشعبية الموريتانية ترمز للأصالة وكرم الضيافة، ولا تحمل أي شحنةٍ سلبيةٍ، كما هو الحال عند بعض العرب، مع أن المسألة شكلية، وتتعلق بـ"إجراء تنظيمي" قابل للأخذ والرد. لكن، ليس من زاوية عدم قدرة موريتانيا على توفير قاعة اجتماعات كبرى، كما تخيّل بعضهم.
تأتي، في السياق نفسه، مبالغة بعض الموريتانيين فى الدفاع عن حالة "الانكشاف والبؤس السياسي" التي ظهر عليها العرب في قمة نواكشوط، لأن النقد هنا موجّه، بالأساس، للحالة العربية، وللحظة العربية بكل تجلياتها وأبعادها. وكذا الحساسية المفرطة للموريتانيين من النقد الموجّه لهم، حكومة أو شعباً، وربط ذلك بالإساءة والتهجم، مع أن الفرق واضح بين المسألتين.
كما أن مسارعة العرب إلى إعلان فشل قمة نواكشوط، لأنها عقدت في خيمةٍ، أو الطعن في قدرة موريتانيا على عقدها فنياً ولوجستياً، هي جزء من حالة سوء التفاهم التي جاءت عليها السطور السابقة. ذلك أن موريتانيا، وعلى الرغم من أنها بلد فقير، وينخره الفساد سياسياً واقتصادياً، مثل أغلب الدول العربية، لكنها أيضا دولة تمتلك مقومات مالية وبشرية عديدة، وقادرة على أكثر من مجرد عقد قمة للقادة العرب، وتوفير قاعة لإلقاء خطاباتٍ وبياناتٍ، تعوّدت عليها الشعوب العربية، ولم تعد تقدم أو تؤخر.