تعددت المعارك والحروب والمواجهات التي خاضها الفلسطينيون في مواجهة الاحتلال على مدار عمر القضية الفلسطينية الممتد لأكثر من سبعة عقود، بل إنه في العقد الأخير وتحديداً من العام 2008 حتى العام 2014 عاش قطاع غزة وحده ثلاث حروب إسرائيلية، ولم تتوقف في الضفة الغربية أعمال التهويد والاستيطان والاقتحام والتوغل وبناء جدار الفصل العنصري.
إسرائيل قوية، والمقصود بالقوة هنا، القوة المادية والعسكرية من معدات وآليات، وهذا ميدان خاضه النضال الفلسطيني منذ النكبة، لكن الثورة الفلسطينية لم تُجرب منازلة إسرائيل في ميدان آخر ولم تُجرب استعمال القوة الناعمة، ليس كبديل عن القوة الخشنة لكن كميدان آخر لا يقل أهمية، لا سيما وقد بدا ضعف الدفاعات الإسرائيلية في هذا الميدان. وبدا أن هزيمة المشروع الإسرائيلي أو تجميده ممكنان.
واحدة من أهم تجليات المعركة وتبعات التلويح بالقوة الناعمة فلسطينياً في حرب الروايات، بدت واضحة عقب إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، فتح تحقيق كامل بشأن ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي أفضى لارتباك إسرائيلي تداعت على إثره أركان الحكومة الإسرائيلية مستعينة بواشنطن وملوحة بمقاطعة المحكمة والبحث عن خيارات الهروب من المحكمة وسيناريوهات المواجهة الممكنة.
بدا مؤخرا أن هناك ميدانين يستطيع الفلسطينيون التحرك فيهما بأريحية تضمن إقلاق إسرائيل وتسجيل نقاط لصالح الفلسطينيين، الميدان الأول هو المقاطعة الدولية، وأما الميدان الثاني فاستدعاء القوانين والمؤسسات الدولية والتلويح بها، خاصة أن نشأة القضية الفلسطينية في الأصل تمت بحركة وبوعود دولية؛ وبالتالي جزء من مواجهة إسرائيل فلسطينياً يجب أن يكون في الساحة الدولية؛ يد تقاطع ويد تحاكم وتلاحق مجرمي الحرب. وقد بدت نتائج ذلك واضحة بل ربما أتت أكلها أسرع مما تأتيه القذائف والصواريخ، ولا أقلل هنا من شأن ذلك لكن في هذا الميدان التقليدي تجد إسرائيل مبررا وذريعة للخروج إلى الحرب والتصعيد والقصف بينما في ميدان القوة الناعمة ميداني "المقاطعة والملاحقة" لا تمتلك أريحية الخروج للحرب والتصعيد.
ففي ميدان المقاطعة الدولية وحركة "BDS" وتبعات المعركة فيه وجدواها سأذكر فيه بعض نتائجه وليس كلها، ومنها تمدد حالة العزلة حتى اقتضى الأمر بـ"الكابينت" الإسرائيلي أن يصادق على إنشاء وزارة جديدة اسمها "وزارة مواجهة مقاطعة إسرائيل"، وهو ما يؤشر ويدلل على الشعور بالقلق الإسرائيلي من تنامي المقاطعة الدولية التي جعلت إسرائيل تشعر بالعزلة، هذا جانب معنوي؛ أما الجانب المادي فإن حركة المقاطعة تسببت في خسائر بمليارات الدولارات لإسرائيل وأدت لانخفاض الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة تزيد عن 46% سنة 2014. وفي عام 2015 قال تقرير لوزارة المالية الإسرائيلية إن المقاطعة الدولية الطوعية من قبل الدول الأوروبية التي تطاول المتاجر والسلع المنتجة في مستوطنات الضفة الغربية أدت إلى أضرار تعادل حوالي 147 مليون دولار سنوياً. وإذا استمرت حركة المقاطعة فإن التقرير يتوقع أن تبلغ الخسائر حوالي 571 مليون دولار في السنة. هذه عينة لما يمكن أن تحققه حركة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والخسائر التي ذكرتها لم تأتِ على ذكر خسارة الشركات والصناعات والمنتجات الإسرائيلية والدول التي رفضت التعامل معها وأنهت عقودها.
ميدان المعركة الأخر بدا مؤخرا يتضح وبدت فيه إسرائيل أكثر قلقاً ولا يقل أهمية عن ميدان المقاطعة؛ هو ميدان المحكمة الجنائية الدولية والتي بمجرد إقرارها البحث في ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب؛ أفضت إلى مجموعة نتائج منها مثلاً ما كشفته صحيفة إسرائيل اليوم في 12 يناير 2020 عن رعب إسرائيلي رسمي من صدور أوامر اعتقال سرية لمسؤولين إسرائيليين، وكشفت ذات الصحيفة عن حالة من الرعب سادت أجواء اجتماع " الكابينت"، وقد أوضحت الصحيفة في خبرها الرئيس بأن "الكابينت" عرض في اجتماعه سيناريوهات صعبة للغاية، في حال قررت محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق ضد الإسرائيليين. وذكرت الصحيفة، أن كل مسؤول إسرائيلي شارك في الترويج للاستيطان في القدس والضفة، قد يتعرض لخطر الاعتقال دون أن يعرف مسبقا بذلك".
أحد أهم النتائج هنا أن المسؤولين الإسرائيليين الذين يزورون الدول الأعضاء في المحكمة قد يتم اعتقالهم من قبل السلطات هناك وتسليمهم إلى محكمة لاهاي، دون أن يكونوا على علم بصدور مذكرة توقيف بحقهم، ويشمل ذلك قادة إسرائيل السياسيين، وقادة الجيش الإسرائيلي، والضباط والجنود الذين قاتلوا في عدوان 2014 على غزة أو بعدها، إضافة لأولئك الذين شاركوا في التعامل مع مسيرات العودة.
دلالة أخرى تركتها معركة قرار المحكمة الجنائية الدولية في بحث جرائم إسرائيل، أنها شجعت منظمات دولية أخرى على اتخاذ إجراءات جديدة ضد إسرائيل؛ فعقب قرار الجنائية قررت المفوضة السامية لحقوق الإنسان "ميشيل باتشيليت" التحضير لإصدار "قائمة سوداء" بالشركات الدولية التي تتعامل مع المستوطنات الإسرائيلية. وقد جرى تأجيل إصدار القائمة بعد أن تم وضعها ضمن أعمال الدورة الأربعين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، ولكن قررت "باتشيليت" تأجيل الإعلان عنها بسبب الضغط الشديد الذي مارسته عليها الولايات المتحدة وإسرائيل.
نعم حدث ضغط لتجميد إصدار "القائمة السوداء" وقد يحدث تأجيل إجراء تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل لكن مصداقية المنظمات الدولية وفاعليتها وشفافيتها تصبح هنا في هذه المعركة على المحك. وتصبح المواجهة بين إسرائيل والمجتمع الدولي بدلاً من تفرد إسرائيل بالهجوم العسكري على الفلسطينيين بل إن هذه المواجهة كفيلة بأن تكشف حقائق الاحتلال وممارساته أمام العالم كله.
لا تتوقف نتائج التلويح بالقوة الناعمة عند إقلاق إسرائيل فقط فهذا غير كاف، لكن المعركة تبدو أكثر وضوحا في إجبار إسرائيل على التوقف عن جرائمها وليس إبداء القلق فقط، فخوف حكومة بنيامين نتنياهو من تبعات ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية أفضى إلى تعليق المخططات الإسرائيلية القاضية بضم غور الأردن، رغم أن خطة الضم قد بدأت بإعلان احتفالي من نتنياهو عشية الانتخابات الثانية، وأيدتها كتل عديدة في الكنيست، وشكلت لجنة من عدة وزارات من أجل تسريع الضم.
قرار استدعاء المحكمة الجنائية الدولية أدى إلى تجميد خطة الضم، وذهب كثير من التقديرات إلى أن التأجيل سيكون عميقا وقد يستمر وليس مجرد تأجيل مؤقت. بل إن الأمر امتد إلى تأجيل إخلاء منطقة الخان الأحمر وهدم قرية العراقيب وهو ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بشكل صريح: "تجميد إخلاء الخان الأحمر حدث في أعقاب الخوف من أن تكون عملية الإخلاء هي القشة الأخيرة أمام المحكمة الدولية". وقد وصل الحال بأن فرضت حكومة إسرائيل برئاسة نتنياهو، السرية على النقاشات الجارية بشأن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في ميدان القوة الناعمة هنا لا يقتصر الأمر على الإقلاق أو اضطرار إسرائيل إلى تجميد الضم والهدم، لكن التحدي سيمتد إلى الأضرار التي ستلحق بصورة إسرائيل واقتصادها إذا بدأ التحقيق ضدها، والمطلوب فلسطينياً هنا الاستمرار في الضغط والتحرك لضمان فتح التحقيق ولكشف الممارسات الإسرائيلية ولإيصال رسائل لكل الأطراف والشركات والمؤسسات التي تعمل وتمول إسرائيل لإجبارها عن التوقف، وإبلاغها بأن ما تقوم به يعتبر شراكة في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل. وأن أقل ما يمكنها أن تقوم به هو مقاطعة إسرائيل.
من المعاني الهامة والانجازات التي يسجلها الفلسطينيون عند التلويح بالقوة الناعمة في ميداني المقاطعة والمحكمة الجنائية الدولية؛ أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يخدم الرواية الفلسطينية في حرب الروايات مع إسرائيل، ويؤكد للعالم أن إسرائيل معتدية، وأن ما يقوم به الشعب الفلسطيني هو دفاع عن النفس عملاً بالشرعية الدولية التي تقول بأن من حق الشعوب تقرير مصيرها، ويتحقق هنا أن تصبح القوة الناعمة أداة ورافعة للقوة الخشنة وللمقاومة والنضال الفلسطيني ومكملة له. من دون أن تفلح إسرائيل في إدانتها ووصفها بالإرهاب.
من النتائج المتحققة أيضاً في هذا الميدان الوصول إلى ما سعت إليه الثورة الفلسطينية منذ الطلقة الأولى وهدف إقامة الدولة الفلسطينية، وقرار المحكمة الجنائية يعني التعامل مع فلسطين كدولة عضو منتم وملتزم بالمحكمة ومخرجاتها، وفتح المحكمة الدولية للتحقيق يعني اعترافا دوليا بفلسطين كدولة، إن أحد الدفوع التي تستحضرها إسرائيل في مواجهة قرار المحكمة الدولية التلويح باتفاق أوسلو والدفع بأن فلسطين ليست دولة، هنا يسجل الفلسطينيون نقطة إضافية جديدة، مثلما تعني المقاطعة الإقرار الدولي باغتصاب أراضي الضفة الغربية ورفض شرعية المستوطنات وما تنتجه وتصنعه وتسوقه. وليس من المبالغة إذن القول بأن ما أخفقت فيه القوة الخشنة الفلسطينية في إقرار العالم بفلسطين كدولة قد نجحت فيه قوتهم الناعمة.
قد يقلل البعض من جدوى القوة الناعمة الفلسطينية وقد يقلل البعض من جدوى فتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، وقد يرى البعض أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة بمعناها الخشن، ولكن إسراع نتنياهو في إرسال رسالة إلى زعماء العالم؛ والتنديد بقرار فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا حول جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل وقوله :" إن هذا يوم أسود للحقيقة والعدالة، وتحويل المحكمة الدولية إلى سلاح سياسي في الحرب ضد إسرائيل"، يعني أن الفلسطينيين قد أفلحوا في هذا الميدان.
إن معركة محاسبة إسرائيل والتحقيق في ارتكابها جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني هي أهم معركة قانونية دولية على الإطلاق، وإن سنوات الاطمئنان والاسترخاء وإخراج المحاسبة من حسابات إسرائيل قد شارفت على الانتهاء ولم تعد تواجه الشعب الفلسطيني الأعزل الذي تتهمه بالإرهاب ولكن عليها مواجهة المجتمع الدولي أيضا في هذه المعركة. لقد حققت القوة الناعمة الفلسطينية معادلة مهمة جداً وغير مسبوقة وهي أنها وضعت العالم في مواجهة إسرائيل وممارساتها وأنه لم يعد ممكناً أو متاحاً لإسرائيل أن تستفرد بالشعب الفلسطيني. الذي بات يجيد توظيف إمكانياته وقدراته ويستحدث ساحات جديدة للمعركة مع إسرائيل وحصارها دولياً بعدما كانت تحاصره. لكن لا يمكن وضع البيض الفلسطيني كله في سلة المقاطعة والمحكمة الجنائية الدولية والاكتفاء بذلك والاستناد إلى الجدار، هذه المعركة قد بدأت للتو والمطلوب فلسطينياً تفعيل كل أدوات القوة الناعمة محلياً وإقليمياً ودولياً، وتمتينها وتعزيز حضورها لا سيما بعدما ثبت أمران الأول أن بإمكان الفلسطينيين مواجهة إسرائيل بقوتين خشنة وناعمة والثاني أن المساحة التي تستعمل فيها القوة الناعمة الفلسطينية أكثر أريحية وأفضل نتائج وأكثر إقلاقاً لإسرائيل.
إسرائيل قوية، والمقصود بالقوة هنا، القوة المادية والعسكرية من معدات وآليات، وهذا ميدان خاضه النضال الفلسطيني منذ النكبة، لكن الثورة الفلسطينية لم تُجرب منازلة إسرائيل في ميدان آخر ولم تُجرب استعمال القوة الناعمة، ليس كبديل عن القوة الخشنة لكن كميدان آخر لا يقل أهمية، لا سيما وقد بدا ضعف الدفاعات الإسرائيلية في هذا الميدان. وبدا أن هزيمة المشروع الإسرائيلي أو تجميده ممكنان.
واحدة من أهم تجليات المعركة وتبعات التلويح بالقوة الناعمة فلسطينياً في حرب الروايات، بدت واضحة عقب إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، فتح تحقيق كامل بشأن ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي أفضى لارتباك إسرائيلي تداعت على إثره أركان الحكومة الإسرائيلية مستعينة بواشنطن وملوحة بمقاطعة المحكمة والبحث عن خيارات الهروب من المحكمة وسيناريوهات المواجهة الممكنة.
بدا مؤخرا أن هناك ميدانين يستطيع الفلسطينيون التحرك فيهما بأريحية تضمن إقلاق إسرائيل وتسجيل نقاط لصالح الفلسطينيين، الميدان الأول هو المقاطعة الدولية، وأما الميدان الثاني فاستدعاء القوانين والمؤسسات الدولية والتلويح بها، خاصة أن نشأة القضية الفلسطينية في الأصل تمت بحركة وبوعود دولية؛ وبالتالي جزء من مواجهة إسرائيل فلسطينياً يجب أن يكون في الساحة الدولية؛ يد تقاطع ويد تحاكم وتلاحق مجرمي الحرب. وقد بدت نتائج ذلك واضحة بل ربما أتت أكلها أسرع مما تأتيه القذائف والصواريخ، ولا أقلل هنا من شأن ذلك لكن في هذا الميدان التقليدي تجد إسرائيل مبررا وذريعة للخروج إلى الحرب والتصعيد والقصف بينما في ميدان القوة الناعمة ميداني "المقاطعة والملاحقة" لا تمتلك أريحية الخروج للحرب والتصعيد.
ففي ميدان المقاطعة الدولية وحركة "BDS" وتبعات المعركة فيه وجدواها سأذكر فيه بعض نتائجه وليس كلها، ومنها تمدد حالة العزلة حتى اقتضى الأمر بـ"الكابينت" الإسرائيلي أن يصادق على إنشاء وزارة جديدة اسمها "وزارة مواجهة مقاطعة إسرائيل"، وهو ما يؤشر ويدلل على الشعور بالقلق الإسرائيلي من تنامي المقاطعة الدولية التي جعلت إسرائيل تشعر بالعزلة، هذا جانب معنوي؛ أما الجانب المادي فإن حركة المقاطعة تسببت في خسائر بمليارات الدولارات لإسرائيل وأدت لانخفاض الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة تزيد عن 46% سنة 2014. وفي عام 2015 قال تقرير لوزارة المالية الإسرائيلية إن المقاطعة الدولية الطوعية من قبل الدول الأوروبية التي تطاول المتاجر والسلع المنتجة في مستوطنات الضفة الغربية أدت إلى أضرار تعادل حوالي 147 مليون دولار سنوياً. وإذا استمرت حركة المقاطعة فإن التقرير يتوقع أن تبلغ الخسائر حوالي 571 مليون دولار في السنة. هذه عينة لما يمكن أن تحققه حركة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والخسائر التي ذكرتها لم تأتِ على ذكر خسارة الشركات والصناعات والمنتجات الإسرائيلية والدول التي رفضت التعامل معها وأنهت عقودها.
ميدان المعركة الأخر بدا مؤخرا يتضح وبدت فيه إسرائيل أكثر قلقاً ولا يقل أهمية عن ميدان المقاطعة؛ هو ميدان المحكمة الجنائية الدولية والتي بمجرد إقرارها البحث في ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب؛ أفضت إلى مجموعة نتائج منها مثلاً ما كشفته صحيفة إسرائيل اليوم في 12 يناير 2020 عن رعب إسرائيلي رسمي من صدور أوامر اعتقال سرية لمسؤولين إسرائيليين، وكشفت ذات الصحيفة عن حالة من الرعب سادت أجواء اجتماع " الكابينت"، وقد أوضحت الصحيفة في خبرها الرئيس بأن "الكابينت" عرض في اجتماعه سيناريوهات صعبة للغاية، في حال قررت محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق ضد الإسرائيليين. وذكرت الصحيفة، أن كل مسؤول إسرائيلي شارك في الترويج للاستيطان في القدس والضفة، قد يتعرض لخطر الاعتقال دون أن يعرف مسبقا بذلك".
أحد أهم النتائج هنا أن المسؤولين الإسرائيليين الذين يزورون الدول الأعضاء في المحكمة قد يتم اعتقالهم من قبل السلطات هناك وتسليمهم إلى محكمة لاهاي، دون أن يكونوا على علم بصدور مذكرة توقيف بحقهم، ويشمل ذلك قادة إسرائيل السياسيين، وقادة الجيش الإسرائيلي، والضباط والجنود الذين قاتلوا في عدوان 2014 على غزة أو بعدها، إضافة لأولئك الذين شاركوا في التعامل مع مسيرات العودة.
دلالة أخرى تركتها معركة قرار المحكمة الجنائية الدولية في بحث جرائم إسرائيل، أنها شجعت منظمات دولية أخرى على اتخاذ إجراءات جديدة ضد إسرائيل؛ فعقب قرار الجنائية قررت المفوضة السامية لحقوق الإنسان "ميشيل باتشيليت" التحضير لإصدار "قائمة سوداء" بالشركات الدولية التي تتعامل مع المستوطنات الإسرائيلية. وقد جرى تأجيل إصدار القائمة بعد أن تم وضعها ضمن أعمال الدورة الأربعين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، ولكن قررت "باتشيليت" تأجيل الإعلان عنها بسبب الضغط الشديد الذي مارسته عليها الولايات المتحدة وإسرائيل.
نعم حدث ضغط لتجميد إصدار "القائمة السوداء" وقد يحدث تأجيل إجراء تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل لكن مصداقية المنظمات الدولية وفاعليتها وشفافيتها تصبح هنا في هذه المعركة على المحك. وتصبح المواجهة بين إسرائيل والمجتمع الدولي بدلاً من تفرد إسرائيل بالهجوم العسكري على الفلسطينيين بل إن هذه المواجهة كفيلة بأن تكشف حقائق الاحتلال وممارساته أمام العالم كله.
لا تتوقف نتائج التلويح بالقوة الناعمة عند إقلاق إسرائيل فقط فهذا غير كاف، لكن المعركة تبدو أكثر وضوحا في إجبار إسرائيل على التوقف عن جرائمها وليس إبداء القلق فقط، فخوف حكومة بنيامين نتنياهو من تبعات ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية أفضى إلى تعليق المخططات الإسرائيلية القاضية بضم غور الأردن، رغم أن خطة الضم قد بدأت بإعلان احتفالي من نتنياهو عشية الانتخابات الثانية، وأيدتها كتل عديدة في الكنيست، وشكلت لجنة من عدة وزارات من أجل تسريع الضم.
قرار استدعاء المحكمة الجنائية الدولية أدى إلى تجميد خطة الضم، وذهب كثير من التقديرات إلى أن التأجيل سيكون عميقا وقد يستمر وليس مجرد تأجيل مؤقت. بل إن الأمر امتد إلى تأجيل إخلاء منطقة الخان الأحمر وهدم قرية العراقيب وهو ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بشكل صريح: "تجميد إخلاء الخان الأحمر حدث في أعقاب الخوف من أن تكون عملية الإخلاء هي القشة الأخيرة أمام المحكمة الدولية". وقد وصل الحال بأن فرضت حكومة إسرائيل برئاسة نتنياهو، السرية على النقاشات الجارية بشأن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في ميدان القوة الناعمة هنا لا يقتصر الأمر على الإقلاق أو اضطرار إسرائيل إلى تجميد الضم والهدم، لكن التحدي سيمتد إلى الأضرار التي ستلحق بصورة إسرائيل واقتصادها إذا بدأ التحقيق ضدها، والمطلوب فلسطينياً هنا الاستمرار في الضغط والتحرك لضمان فتح التحقيق ولكشف الممارسات الإسرائيلية ولإيصال رسائل لكل الأطراف والشركات والمؤسسات التي تعمل وتمول إسرائيل لإجبارها عن التوقف، وإبلاغها بأن ما تقوم به يعتبر شراكة في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل. وأن أقل ما يمكنها أن تقوم به هو مقاطعة إسرائيل.
من المعاني الهامة والانجازات التي يسجلها الفلسطينيون عند التلويح بالقوة الناعمة في ميداني المقاطعة والمحكمة الجنائية الدولية؛ أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يخدم الرواية الفلسطينية في حرب الروايات مع إسرائيل، ويؤكد للعالم أن إسرائيل معتدية، وأن ما يقوم به الشعب الفلسطيني هو دفاع عن النفس عملاً بالشرعية الدولية التي تقول بأن من حق الشعوب تقرير مصيرها، ويتحقق هنا أن تصبح القوة الناعمة أداة ورافعة للقوة الخشنة وللمقاومة والنضال الفلسطيني ومكملة له. من دون أن تفلح إسرائيل في إدانتها ووصفها بالإرهاب.
من النتائج المتحققة أيضاً في هذا الميدان الوصول إلى ما سعت إليه الثورة الفلسطينية منذ الطلقة الأولى وهدف إقامة الدولة الفلسطينية، وقرار المحكمة الجنائية يعني التعامل مع فلسطين كدولة عضو منتم وملتزم بالمحكمة ومخرجاتها، وفتح المحكمة الدولية للتحقيق يعني اعترافا دوليا بفلسطين كدولة، إن أحد الدفوع التي تستحضرها إسرائيل في مواجهة قرار المحكمة الدولية التلويح باتفاق أوسلو والدفع بأن فلسطين ليست دولة، هنا يسجل الفلسطينيون نقطة إضافية جديدة، مثلما تعني المقاطعة الإقرار الدولي باغتصاب أراضي الضفة الغربية ورفض شرعية المستوطنات وما تنتجه وتصنعه وتسوقه. وليس من المبالغة إذن القول بأن ما أخفقت فيه القوة الخشنة الفلسطينية في إقرار العالم بفلسطين كدولة قد نجحت فيه قوتهم الناعمة.
قد يقلل البعض من جدوى القوة الناعمة الفلسطينية وقد يقلل البعض من جدوى فتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، وقد يرى البعض أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة بمعناها الخشن، ولكن إسراع نتنياهو في إرسال رسالة إلى زعماء العالم؛ والتنديد بقرار فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا حول جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل وقوله :" إن هذا يوم أسود للحقيقة والعدالة، وتحويل المحكمة الدولية إلى سلاح سياسي في الحرب ضد إسرائيل"، يعني أن الفلسطينيين قد أفلحوا في هذا الميدان.
إن معركة محاسبة إسرائيل والتحقيق في ارتكابها جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني هي أهم معركة قانونية دولية على الإطلاق، وإن سنوات الاطمئنان والاسترخاء وإخراج المحاسبة من حسابات إسرائيل قد شارفت على الانتهاء ولم تعد تواجه الشعب الفلسطيني الأعزل الذي تتهمه بالإرهاب ولكن عليها مواجهة المجتمع الدولي أيضا في هذه المعركة. لقد حققت القوة الناعمة الفلسطينية معادلة مهمة جداً وغير مسبوقة وهي أنها وضعت العالم في مواجهة إسرائيل وممارساتها وأنه لم يعد ممكناً أو متاحاً لإسرائيل أن تستفرد بالشعب الفلسطيني. الذي بات يجيد توظيف إمكانياته وقدراته ويستحدث ساحات جديدة للمعركة مع إسرائيل وحصارها دولياً بعدما كانت تحاصره. لكن لا يمكن وضع البيض الفلسطيني كله في سلة المقاطعة والمحكمة الجنائية الدولية والاكتفاء بذلك والاستناد إلى الجدار، هذه المعركة قد بدأت للتو والمطلوب فلسطينياً تفعيل كل أدوات القوة الناعمة محلياً وإقليمياً ودولياً، وتمتينها وتعزيز حضورها لا سيما بعدما ثبت أمران الأول أن بإمكان الفلسطينيين مواجهة إسرائيل بقوتين خشنة وناعمة والثاني أن المساحة التي تستعمل فيها القوة الناعمة الفلسطينية أكثر أريحية وأفضل نتائج وأكثر إقلاقاً لإسرائيل.