كوبا، أجبت فوراً عن سؤال الفتاة الأميركيَّة التي كانت تجلس بجانبي في الطائرة المتَّجهة من أطلنطا إلى نيكاراغوا قادمةً من بورتوريكو. قضينا أغلب ساعات الرحلة الثلاثة في الحديث عن جمال جزيرة بورتوريكو التي تحتلُّها أميركا، لكن في الوقت نفسه عن أسعارها المرتفعة وقوانينها المأخوذة تماماً عن الولايات المتحدة التي تحكمها.
سألتني الأميركيّة، وقد جئنا على ذكر كوبا الخالية من المولات التجارية الكبيرة المنتشرة في بورتوريكو، أو من محلات الدوناتس والوجبات السريعة: وهل تفضَّلين كوبا أم بورتوريكو؟ كان بإمكاني أن أتريَّث في الإجابة، أن أقولَ مثلاً: حسناً، هناك أمورٌ سيِّئةٌ وحسنةٌ في كلٍّ منها. فكوبا، على سبيل المثال، ما زالت تحتفظ بطبيعتها دون تشويه، تستنشق فيها عبق سيجار قبائل الكوهيبا التي سكنتها منذ قرون طوال.
في كوبا، تنسى العولمة، تسير في شوارع مليئة بالسيارات القديمة التي تقاوم –بفضل الكوبيِّين- عوامل الزمن. في كوبا، حتى الكوكاكولا والهمبرغر كوبيّان. بل "إنَّ فيها قوماً جبّارين"، يصنعون كلَّ شيءٍ بأيديهم. في كوبا تشعر أنَّ الكون كلَّه كوبا.
من ناحيةٍ أخرى، يشكو الناس صعوبة الأوضاع الاقتصاديّة، التضييق على الحرِّيَات، بعضهم يبحث عن طريقةٍ للخروج إلى الولايات المتَّحدة أو إسبانيا، والكثير منهم يفضِّل أن يكون مواطناً كوبيّاً حرّاً على أن يُعامل في بلدٍ آخر كمهاجر.
الطبيب في كوبا قال لي أفضّل أن أكون طبيباً بأجر قليلٍ في بلدي على أن أعمل ممرِّضاً في الولايات المتّحدة. في بورتوريكو، قالت لي سيِّدةٌ بسيطة حين سألتها إن كانت تفضِّل انفصال بلادها عن أميركا أم لا، فأجابت: "نحن نذهب إلى أميركا دون الحاجة إلى تأشيرة"، سببٌ وجيه برأيها للاحتلال!
قلت في نفسي: "هل تظن الفتاة الأميركية إنَّني سأقول لها إنَّني أفضِّل بورتوريكو التي تحتلُّها بلادها؟". لا شك أنّني صدمت –وأنا القادمة من ثاني أفقر بلدٍ في أميركا الوسطى بعد هاييتي- من حجم التطور المدني في بورتوريكو. لكن بورتوريكو لم تكن حاضرةً تماماً في بورتوريكو إلّا من خلال الأبواب والجدران الملوَّنة في مدينتها القديمة، في غاباتها وأمطارها الاستوائية وحرارتها المرتفعة، في مناظرها الطبيعيّة الخلّابة وبحرها الكاربيبي، وفي لغة أهلها الإسبانية التي هي أصلاً لغة مستعمرٍ آخر.
قال لي أحدهم وهو يرتدي كوفيَّةً فلسطينيَّة إنَّه يعارض الاحتلال الأميركي لبلاده، لكنه فخورٌ أنَّه (الاحتلال)، لم يتمكَّن من محو لغة الناس الإسبانيَّة وظلَّت الإنجليزيَّة التي يُتقنها جميع البورتوريكيُّون لغةَ ثانية، أطرقت برأسي وابتسمتُ له مشجَّعة وقلت في نفسي –وغالباً ما أفعل ذلك- "أليست اللغة الإسبانيَّة هي لغة احتلالٍ أيضاً".
حسناً، ربّما بالغت في ذلك ونحوت منحىً مثاليّاً، إذ إن الإسبانية أصبحت ذات لهجات متعدَّدة خاصَّة بكلِّ بلدٍ في أميركا اللاتينيَّة وأصبح التمسّك بتلك اللهجة فعلاً قوميّاً.
في بورتوريكو، كنت أتردَّد أحياناً في تحديد جنسيّة محدِّثي، إن كان بورتوروكيّاً أم أميركيّاً، خصوصاً حين يبدأ بالحديث بلغةٍ إنجليزيّةٍ متقنة، وتبدو عليه الملامح الأوروبيّة. الفضول كان يدفعني لأردَّ عليه بالإسبانيّة التي أتقنها أكثر من الإنجليزيّة لأحدَّد جنسيَّته، وحين يجيبني بالإسبانيّة أسأله إن كان بورتوريكيّا فيردُّ بالإيجاب!
أحد ملّاك الفنادق وكان أميركيّاً –كأغلب الأحيان- قال لصديقتي إنّه لا يفضِّل تشغيل البورتوريكيّين في فندقه، لأنَّهم كسالى! قلت في نفسي للمرّةِ الأخيرة: هل يجرؤ أميركي –في حال دخل الأراضي الكوبيّة-، بنعتهم في عقر دارهم بهذه الصفة؟