في عام 1943، وتعليقا على اتهام محكمة بريطانية لقادة صهاينة بتهريب السلاح إلى العصابات الصهيونية في فلسطين، قال بن غوريون: "من الآن فصاعدا؛ أن تكون مناهضا للصهيونية يعني أنك مناهض للسامية". كانت تلك محاولة مبكرة لزحزحة مفهوم اللاسامية" الذي تمت صياغته أوروبيا، عن معناه الكلاسيكي، عبر ربط مناهضة الصهيونية بمناهضة السامية. وبعد أن كان اليهود، ومنهم خصوصا، الناجون من الهولوكوست، يخجلون من الحديث عن تلك التجربة حتى أواسط ستينيات القرن العشرين، تنبه الصهاينة إلى أهمية استغلال ما حدث لليهود خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ورقة للضغط في وجه من يعارضون احتلال إسرائيل الأراضي العربية عام 1967. وانطلقت في الربع الأول من السبعينيات دراسات حاولت تكريس اللاسامية الجديدة بالتسويق لفكرة أن "الانتقادات الموجهة لإسرائيل هدفها القضاء على إسرائيل كدولة لليهود، وليس لأنها تحتل أراضي عربية"، وبات الهدف لا يتمثل بمقاومة مناهضة السامية بل استغلال معاناة اليهود التاريخية لتحصين إسرائيل من النقد.
بعد تحولات متسارعة في العقد الأخير من القرن العشرين تمثلت في انتهاء الحرب الباردة، وفي حرب الخليج الثانية، وانطلاق مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ألغت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة، في عام 1991، قرارها الصادر في عام 1975 الذي نص على أن "الصهيونية هي أحد أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، فألقت بذلك ما كان خاضعا لقرار دولي رسمي إلى أروقة السجال الأكاديمي، والفكري، والسياسي، والأيديولوجي، ليخضع أي تثبيت له لموازين القوى الدولية لا لمعايير الأخلاق وحقوق الإنسان، وباتت الفرصة سانحة لصعود فكرة اللاسامية الجديدة. وفي مساعيها لتحسين صورتها التي تعرضت لانتقادات شديدة في المنظمات الدولية، إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، استغلت إسرائيل والدوائر الصهيونية صعود حركات اليمين المتطرف في أوروبا لتملأ الفراغ السياسي المتأتي عن تراجع الأحزاب التقليدية، وتعزز خطابا يتضمن مناهضة السامية (بالإضافة إلى الإسلاموفوبيا، وحتى نظريات تفوق العرق الأبيض)، وأثمرت تلك الجهود الصهيونية عن تعريف توصل له المركز الأوروبي لرصد العنصرية ورهاب الأجانب في عام 2005 المسمى "التعريف العملي للمركز الأوروبي لرصد العنصرية ورهاب الأجانب لمناهضة السامية" (ُ EUMC)، الذي رأى في اللاسامية: "تصورا معينا لليهود، يتم التعبير عنه بالكراهية تجاه اليهود، مظاهر مناهضة السامية اللفظية أو المادية يتم توجيهها نحو الأفراد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية". أصبح هذا التعريف العملي، بعد ألف عام من الجهود الفردية النظرية والأكاديمية في تعريف اللاسامية، نقطة تحول بوصفه جهدا مشتركا سعى إلى تركيب مقبول لدى جميع الأطراف، مع أن الغاية منه كانت محاولة توحيد جمع البيانات حول حالات جرائم الكراهية اللاسامية في مختلف البلدان، وليس استخدامه جهازا قانونيا أو تنظيميا للحد من حرية التعبير، وتهمة تطارد كل منتقد للصهيونية والممارسات الإسرائيلية.
تراجعت الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية FRA، التي تولت مهام EUMC عام 2007،عن تبني التعريف وشطبته عن موقعها الإلكتروني، ليتم اعتماده من قبل عدد من المنظمات والدول، بضغط من إسرائيل والمنظمات الصهيونية، وبذل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جهودا حثيثة لتبنيه عالميا، وكانت تهمة اللاسامية الجديدة حاضرة في مختلف خطاباته، واتسعت لكل منتقد لإسرائيل وسياساتها، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية، وباتت تلك التهمة وسيلة صهيونية لنزع شرعية الناقدين لإسرائيل، فكريا، وسياسيا وأخلاقيا، وتبنى التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، في 26 مايو 2016 نسخة مطابقة تقريبا لهذا التعريف العملي (الذي شطبته الهيئة الأوروبية التي أصدرته) والتي تقدم نماذج عن اللاسامية في الحياة العامة تركت الباب مفتوحا على تسيس المفهوم حين خلطت بين انتقادات إسرائيل وبين معاداة السامية. من تلك النماذج: اتهام اليهود كشعب، أو إسرائيل كدولة، باختراع المحرقة أو المبالغة فيها، واتهام المواطنين اليهود بأنهم أكثر ولاءً لإسرائيل، أو للأولويات المزعومة لليهود أكثر من مصالح دولهم، وحرمان الشعب اليهودي من حقّه في تقرير المصير (الادعاء مثلا بأن وجود دولة إسرائيل هو مشروع عنصري)، وغيرها.
تبنت الخارجية الأميركية، هذا التعريف العملي، وأقرّت مجموعة من البرلمانات الأوروبية قرارات اعتبرت فيها أن التوجهات المعارضة للصهيونية هي شكل من أشكال العداء للسامية، لتضمحل الحدود بين نقد اليهود، الذي يعد عداء للسامية بالمفهوم الكلاسيكي، ونقد سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين، اللذان تلح اللاسامية الجديدة على الربط بينهما، مع أن التعريف العملي هو تعريف ضبابي، وغير واضح المعالم، قد يتضمن الكثير من الرؤى عن اليهود، سواء تلك التي تعبر عن كراهيتهم، أو تلك التي لا يوجد فيها بالضرورة كراهية تجاههم، أو تلك التي لا يوجد فيها بالضرورة كراهية لإسرائيل، ومن السهل إدراك أن الأمر يتعلق بعرقلة مدمرة لأي احتجاج دولي ضد نظام الاحتلال والاستيطان والأبرتهايد لإسرائيلي ( دمتري شومسكي: "هآرتس"، 28 /6 /2020).
ضبابية التعريف تحاصر الانتقادات للاحتلال والنضال ضده بوصفه مظاهر على اللاسامية، فحركة المقاطعة (B.D.S)، والدعوة لمقاطعة المستوطنات، كلها مظاهر لاسامية، مما يفقد مفهوم "اللاسامية" أي علاقة له مع الظواهر التاريخية والسسيولوجية للظاهرة اللاسامية، وتفريغه من أي مضمون فكري ليصبح مجرد أداة سياسية. فنحن اليوم أمام تشبيك متعمد بين هذا التعريف وبين المسألة الفلسطينية، بلغت حد اعتبار أن المطالبة بحق العودة للفلسطينيين هي جزء من معاداة السامية. فالمفهوم لا يحيل على مواجهة مناهضة السامية الصادرة عن ممارسات أو خطاب تقليدي يحض على كراهية اليهود في الماضي، بل يهدف إلى مواجهة الخطاب المؤيد لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعدالة قضيته وحقه في مقاومة الاحتلال أو الاستعمار الإسرائيلي، وفي سياق سبغ المشروع الصهيوني بالأخلاقية بإزاحة كل نقد يوجه ضده. الحاجة ملحّة اليوم للنضال في سبيل الحفاظ على الحدود واضحة بين الانتقاد المشروع للسياسات الإسرائيلية العنصرية، وبين العداء لليهود بوصفهم يهودا، ومواجهة هذا التعريف العملي الذي بات فزاعة سياسية تبرر انتهاك حقوق الفلسطينيين بحجج تزعم أنها أخلاقية.