المثقف والسلطة .. أي علاقة؟
أعادني مشروع "تكوين المثقف" الذي أعلنت عنه، ودعتنا إلى المشاركة فيه، أخيرا، مكتبة طروس لدراسات الشرق الأوسط في الكويت، إلى التفكير مجدّدا بمعنى "المثقف" دورا ومصطلحا، وهو المعنى الذي حاولت دائما البحث فيه والكتابة عنه، وفق ما أجده متاحا أمامي، ليس من كتابات وقراءات تتماسّ معه وحسب. ولكن أيضا وفق ما أتلمس من تطبيقات عملية حياتية له في راهننا المعاش. ومن مقالاتي التي بحثت عنها تحضيرا للمشاركة في حفل إعلان المشروع مقال قديم عن "أبي تمام والأمير أو المثقف والسلطة"، بحثت عنه في دروب الإنترنت طويلا، ولم أجده، ما شجّعني على تحريره مجدّدا، ونشره في هذه المساحة المتاحة في "العربي الجديد"، وهو يتناول واحدة من حكايات الشاعر أبي تمام مع الأمير (أي أمير)، بما يمثل علاقة المثقف بالسلطة، أي سلطة.
وقصد الشاعر أبو تمام، وفقًا لرواية الأصفهاني في أغانيه، خراسان، فاجتمع الشعراء إِلَيْهِ، وسألوه أن يُنشدهم، فَقَالَ: قد وعدني الأمير أن أنشده غدًا، وستسمعون. فَلَمَّا دخل عَلَى عَبْد اللَّهِ أنشده:
أَهُنَّ عَوادي يوسُفٍ وَصَواحِبُه/ فَعَزماً فَقِدماً أَدرَكَ السُؤلَ طالِبُه
إِذا المَرءُ لَم يَستَخلِصِ الحَزمُ نَفسَهُ/ فَذِروَتُهُ لِلحادِثاتِ وَغارِبُه
أَعاذِلَتي ما أَخشَنَ اللَيلَ مَركَباً/ وَأَخشَنُ مِنهُ في المُلِمّاتِ راكِبُه
فَلَمَّا بلغ إلى قوله: وَقَلقَلَ نَأيٌ مِن خُراسانَ جَأشَها/ فَقُلتُ اِطمَئِنّي أَنضَرُ الرَوضِ عازِبُه
وَرَكبٍ كَأَطرافِ الأَسِنَّةِ عَرَّسوا/ عَلى مِثلِها وَاللَيلُ تَسطو غَياهِبُه
لِأَمرٍ عَلَيهِم أَن تَتِمَّ صُدورُهُ/ وَلَيسَ عَلَيهِم أَن تَتِمَّ عَواقِبُه
صاح الشعراء بالأمير أَبِي الْعَبَّاس: مَا يستحق مثل هَذَا الشعر غير الأمير أعزّه اللَّه. وَقَالَ شاعر منهم، يعرف بالرياحي: لِي عنده أعزه اللَّه جائزة وعدني بِهَا، وقد جعلتها لهذا الرجل جزاء عَنْ قوله للأمير. فَقَالَ لَهُ الأمير: بل نضعفها لك، ونقوم لَهُ بِمَا يجب لَهُ عَلَيْنَا. فَلَمَّا فرغ من القصيدة نثر عَلَيْهِ ألف دِينَار، فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئا، فوجد (غضب) عَلَيْهِ الأمير، وَقَالَ: يترفع عَنْ بري، ويتهاون بِمَا أكرمته بِهِ؟ فلم يبلغ مَا أراده مِنْهُ بعد ذَلِكَ".
انتهت قصة أبي تمام مع الأمير في كتاب "الأغاني"، ولم تنته قصة الشاعر أو المثقف في كتاب الحياة مع الأمير أو مع السلطة.
قد يكون أبو الفرج الأصفهاني مبالغًا، كعادته في رواية القصة على هذا النحو، خصوصا إن قرأنا في سيرة أبي تمام، ما يتناقض معها، بشكل أو بآخر، وفقًا لطبيعة العلاقة السائدة بين الشاعر والأمير، أو بين المادح والممدوح آنذاك، ولكنها على أي حال، وبغض النظر عن دقتها التاريخية، تصلح لأن تكون مثالًا نموذجيًا لتلك العلاقة المتأرجحة ما بين المثقف والسلطة في كل زمان ومكان. وبالتأكيد في النظم السياسية التي لا تحتكم إلى الديمقراطية، ولا يسود فيها مبدأ تداول السلطة والحكم تحديدًا، كما في أغلب بلادنا العربية.
لقد غضب الأمير على الشاعر، لا لأن الشاعر قد انتقده على سبيل المثال، بل لأنه ترفّع، لسبب أو لآخر، عن نيل عطائه الذي تفضّل به هذا الأمير عليه، بعد أن أطربه ما قال فيه، فما بالك لو أن أبا تمام كان قد انتقده بدلًا من أن يمتدحه؟ أو هاجمه بدلًا من أن يُشيد به؟
أبو تمام هنا، أي في ذلك الموقف، وبلغة العصر الراهن، إنما هو شاعر موالٍ لا معارض، فقد قطع المسافات الطويلة إلى سلطانه ليمتدحه، لا ليقول بين يديه كلمة حق مثلًا، بل إنه بالغ في مديحه إلى الدرجة التي شهد له بها منافسوه في الموالاة من الشعراء الحاضرين، لكن مشكلته أنه كان يوالي السلطان وفقًا لطريقته هو، لا طريقة السلطان. ولهذا حلت عليه اللعنة السلطانية، فحرم من العطاء لاحقًا، لأنه رفض طريقة العطاء وشكله، وربما كميته، وحسب... وللحكاية مع الحكاية بقية.