المثقف والفنان والثورات سيرة المفاجآت

24 مارس 2015
+ الخط -
نحن جيل ترعرع في عزّ الهزيمة، وعاش إحباطات الثورة الفلسطينية ومعها انهيار الأوهام الكبرى. مع ذلك نحن جيل ظلّ يتشبّث بـ "أوهامه"، وبحسّه النقدي وبقدرته على النهوض مع توالي النكبات.
من منّا كان يتوقع ما يحدث الآن؟ وحده بطل رواية "حين تركنا الجسر" لعبد الرحمن منيف ظلّ يقظًا، صحبة كلبه وردان: "وردان ياوردان، الدين والسياسة سبب هزيمتنا يا وردان".
كان "الإرهاب" في ما مضى ضرباً من البطولة إذ كان الهدف منه إسماع قضية. كان "عمليات محدودة" لا يكون القتل فيها إلا حدثاً عابراً، أو ردّ فعل محدود عن عمليات تقتيل جماعي في فلسطين والشيلي وغيرهما. لم يكن يتصوّر أحد أن التقتيل سيصير ممنهجاً، حتّى عشناه في أفغانستان ونيجيريا وسورية وليبيا والعراق. وحتّى أصحاب نظريات صدام الحضارات، لم يتوقعوا أن تأكل حضارة نفسها قبل أن تواجه الآخر. الفيروس قاتل لأنه يبدأ بجلدته، ويدمّر كلّ ما حوله.
لهذا باتت تُطرح قضايا يتمّ العودة إليها بعد أن استهلكها النقاش في العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ عن دور المثقف ووظيفة الفنّ. كم يكفينا إذن من الوقت لنجمع أشلاءنا من جديد ونقف ونعيد طرح السؤال، بِكراً، كما لو أنه لم يطرح أبداً؟
في ما مضى من العقود كان المثقّف والفناّن يقفان على أرضية صلبة أو تكاد تكون. وكان إيقاع التحوّلات بطيئاً، يستوعبه في سريانه، يلهث وراءه أحياناً لكنه يتمكن من الإمساك به. لا تهمنا طبيعة الأجوبة التي كانت تُعطى، سواءٌ أفي راديكاليتها الاستيهامية أم في يقينيتها المعتدّة بخلفياتها النظرية؟ كان للمثقّف كما للفنّان صوت ووجود، ومغامرة اتخاذ الموقف بشكلٍ فردي وجمعي. ليس ثمّة حنين في ما أقوله بل الكثير من الرغبة في فهم ما يجري.
في ما مضى كانت الثورات تُبنى لسنوات طوال ثم تُجهض في لحظة. أمّا اليوم فإنها تنطلق كالشرارة لتخبو في وقت طويل. تفاجئ الكلّ ومن ضمنهم المثقّف والفنّان. ينصاعان لفتنتها من غير أن يدركا ما تحمله لهم من المفاجآت. يندهشان لوهجها، ينساقان مع إيقاعها العجل، لاهثين أحياناً، متأمّلين أخرى. يحاولان قراءة ما أتت به في عفويتها وفي طابعها الشبابي غير المألوف، كما في إيقاعها العنيف تارةً والمسالم أخرى.
كيف تفاعل الفنّان العربي المعاصر مع هذه الثورات؟ إلى أي حد رجرجت فيه طمأنينته المفترضة؟
بعض الفنانين الشباب المكرّسين جهودهم للأشكال التعبيرية، كانوا أقرب إلى حساسية المرحلة. فالفنّ الإنجازي والإنشائي يُمسرح الذات والآخر، ويمنح حركية أكثر لتفاعلات الخارج. إنه أشبه بواقع ثانٍ قادر على امتصاص الإيقاع المتسارع لظاهرة الثورات العربية، لذا كان التفاعل مباشراً. بل إن فنون الشارع والغرافيتي صارت ظاهرةً قوية، لم نعرف لها مثيلاً من قبل. هذه الفنون في تعبيريتها المفتوحة وجدت مرتعاً في انفتاح الفضاء العمومي، الذي ظلّ تحت وصاية الدولة. ثمّ صار فضاء عموميّاً بالمعنى الكوني.
بيد أن الثورات العربية، ويا للمفارقة، لم تنتج فنّاً ثوريّاً، أي لم تفرز حركةً فنيةً من بين صلبها وترائبها. فما كادت هذه الثورات في أغلبها تنبثق، حتّى ركبت عليها التيّارات الإسلامية المحيقة بحركتها، أو تحوّلت إلى حروب أهلية بين الثوار والإسلاميين والسلطات المحلية.
في تونس كما في مصر، وبشكل مختلف في سورية وغيرها، سرت الخيبة، لتعمّ العالم العربي. فالفنّان، أكثر بكثير من المثقّف، ما كاد يهضم انفجار "الربائع العربية"، حتّى اكتشف أو ظنّ أنها تشبه تماثيل الرمال، تتحللّ ما إن يصلها موج البحر. أو مثل قصور الورق هبّت عليها رياح آتية من مناطق أخرى. وحتّى الفنانون الأكثر ارتباطاً بقضايا شعوبهم، وجدوا أن الصدمة الأولى تلتها صدمات أخرى.
هكذا يمكن عدّ أن تلك الخيبة ولّدت مرارة، والمرارة ولّدت حيرة فنية. لهذا بالضبط يمكن عدّ الانسحاب المبكّر، بل الغياب أحياناً، جعل الفنّان العربي (باعتباره مثقّفاً بصريّاً)، يعيش ضرباً من الحيرة الكبرى، الناجمة عن الالتباس الذي عرفه الحراك العربي وتحولاته المتسارعة. رغم أن الثورة في تونس حافظت على توازنها، إلا أنها لم تفرز مع ذلك إلا حصيلة سياسية. وفي ليبيا أخذت الأمور اتجاهات متعدّدة، لم يعد معها أي استقرار سياسي. أمّا في مصر، فقد عاد العسكر للحكم في ما يشبه التدخّل في المسار الذي آلت إليه الثورة.
ثمّة شيء أكيد في كلّ هذا. الفنّ العربي لم يستبطن ثوراته الفجائية في بداية هذا العقد، ولم يواكبها بما يجعلها تنطبع في تاريخ متخيلنا. بيد أنه تحرّر من الكثير من العوالق التي كانت تشدّه إلى تاريخه. شبابٌ كثرٌ ولدوا فنيّاً مع هذا التاريخ المتشنج، المليء بالمفاجآت. وأغلبهم امتلك جرأة كانت منْحبسةً في دواخله، وبعضهم دخل في تجريب ممكناته حتى تستوي في استكشافها للجديد. الوقت صار إذن لتفجير الممكنات والكوامن، وتحويل الخوف من التجديد، إلى مغامرة فنية لها مشروعيتها التاريخية.
والآن، ونحن نسائِل كلّ هذا، تبقى في ذهننا صورٌ متفرقة، بعضها ضبابي ومشوش، والآخر يلوك اليقينيات الزائفة للماضي. لنقلها بكلّ صراحة: إذا كان لما يجري من عثرات وتحوّلات غير واضحة المعالم، من آثار إيجابية على الثقافة والفنّ في بلدان الوطن العربي، فهي أنها خلخلت الجاهز وجعلت المثقّف والفنّان يدركان أن مفهوم الثورة نفسه صار على المحك، وأن الإبداع الفني مفتوح على أفق التحولات، مهما كانت عواقبها غير محسوبة سلفاً.
المساهمون