بعدما انتهى المثقّف الوطني إلى الصمت أو السجن، المنفى أو القبر. توّجَ العسكر انتصارهم بالاستقرار القسري، وكان من أنواع الموت على قيد الحياة في بلد بات مضبوطاً بالأجهزة الأمنية. لم يعد من هدفٍ للنظام سوى الاستمرار في البقاء إلى الأبد، لكن مع خلوّ الساحة من المثقّف الوطني، اشتدّت الحاجة إلى مثقّف نوعي لتسويغ "الأبد" الذي لا يُسوَّغ إلّا بالشعارات المحفوفة بضجيج الأيديولوجيات الأبوية التي لا تقول شيئاً، وتزعم أنها تسدّ حاجات الشعب المادية والمعنوية، ما آذن بظهور المثقّف المحترف.
لم يأت المثقّف المحترف من فراغ، كان سليل اليسار العتيد، يسارياً حتى العظم، في زمن كان تيار العصر. فالرجعية وملحقاتها المحافظة كانت منبوذة، ولا يمكن أن يكون المثقّف إلّا مناضلاً شرساً. وكانت الاختيارات متنوّعة، بعد انكشاف الستالينية، فكان يسارياً على نمط الشبيبة الأوروبية، فأدرك التروتسكية والماوية والكاستروية، وكاد أن يلتحق بالغيفاروية، وحرب التحرير الشعبية، وإن بلا أدغال، لو أن غيفارا، لم يُقتل في أحراج بوليفيا.
منذ ذلك الوقت، أدرك المثقّف تأثير الاحتراف وقوّته، وذلك بالانتساب إلى آخر تقليعة نضالية على أن تكون عالمية، وتنحو إلى الانسجام مع الطبعات الشائعة لليسار القادمة من الخارج، والالتحاق بالنسخة الأخيرة. بهذا تمكّن من المزايدة على الشيوعيّين، واتّهمهم بالتفريط بماركس والماركسية، وانتقد الطفولة اليسارية، وأصبح شيوعياً بلا تحريف ولا تنقيح. بعدها بات همُّه تحديث يساريته على الدوام، فلاحق القضايا الرائجة، فمن قضية المرأة والدين إلى الإسلام السياسي، وإن في مرحلةٍ ما شجّع الثورة الإسلامية.
من أجل البقاء يتنسّم عبير الحرية، حافظ على صلات طيّبة مع دكتاتورية بلده، كانت من ضرورات التحديث الواقعية، ومن فرط احترافه، زعم معارضة النظام من الداخل بذريعة إجراء متغيّرات في عقر السلطة.
في بداية "الربيع العربي"، أيّد المظاهرات الاحتجاجية خفيةً، وحدس مع استمرارها أن الربيع يوشك أن يزهر ثورة، فقال: هذه ثورتي. وفي حال تأسلمت، كان على استعداد للتعاطف مع الإسلام المناضل. بيد أن المظاهرات والأسلحة الخفيفة والتأييد الغربي المنافق، لن تثمر، بينما أثمرت الاعتقالات بالآلاف، والمدافع التي تدك المدن والأرياف.
هل انتهى الربيع؟ سيقدّم له النظام ذريعة الحرب على الإرهاب. لم يتحيّر؛ الربيع الإرهابي أفرز الإرهاب، فأعلن: هذه ليست ثورتي. لكن، ماذا عن مئات آلاف الشهداء وملايين النازحين وهذا الخراب الشامل؟
عاود المثقّف المحترف نشاطه بالتنظير للدولة الشمولية راعية الزمان والاستقرار، فكانت الدكتاتورية تقدّمية وعلمانية ويسارية، ولا بديل عن القضاء على الإرهاب، ولو كان في تدمير سورية، وتهجير الملايين، وتحويل الثكنات والمدارس إلى سجون، والسماح لفروع الأمن بتعذيب المعتقلين حتى الموت. في الوقت نفسه، لم يغفل عن المناداة بالحريات، لماذا؟ الحرية من القضايا التي لا يصيبها الكساد.
يمتطي المثقّف المحترف القضايا الرائجة، ويتنصّل من القضايا الخاسرة. ولئلا نظلم اليسار والاتجاهات الراديكالية بأنواعها، ليس المثقّف المحترف يسارياً ولا تقدُّمياً، إنه بوق لا أكثر.