لا انتقاص من مكانة الأنبياء في القول إنهم كانوا طليعة المثقّفين في زمانهم، وفي الأزمنة اللاحقة، نجمهم لم يخبُ، ما زال ما دعوا إليه شعلةً تتأجّج في العالم، ومثلهم الحكماء والفلاسفة والمفكّرون والعلماء، وإن كانوا مقيّدين إلى عصورهم، وقد يتجاوزونها، وفي هذا تكمن أصالة رؤاهم.
لا يفتقد عصرنا إلى المثقّفين. لكن بالمقابل، لنعترف بأنّ هناك فائضاً من الثقافة الزائفة، وفي المشهد الثقافي، طغيان من المثقّفين الزائفين، مثقّفي المال والجشع والشهرة والانتهازية، ويحلو للسلطات القائمة على الاستبداد إطلاق وصف المثقّفين الوطنيّين عليهم، مع ما فيه من إنكار للثقافة والوطن معاً، طموحاتهم لا تزيد عن الطمع بالسير في ركاب سلطة بحاجة إليهم، تستغلّهم وتحتقرهم، لمجرّد اختيارهم الخدمة بدرجة عملاء.
إنّ الدعوة إلى إعلاء شأن المثقف ليست مديحاً مجانياً، ولا هي خاضعة للجدل، عصرنا الأحوج إليها، من فرط ضياع الحقوق وخلط الحقائق، فالحكومات بأنواعها ضد الحقيقة التي هي بطبيعتها مكلفة، ولا تحابي، ولو كان لها العمل بكامل طاقتها، لزجّت بالكثير من المتنفّذين في الدولة ووسائل الإعلام وراء القضبان، وكشفت عن فضائح لا تقلّ عن جرائم، تقضي على مستقبلهم السياسي، وربما الاجتماعي والأُسَري.
بيد أن الحقيقة ليست مطلوبة، فهي لا تُدرّ المال، بل المتاعب، هذا حظّها، وتقود أيضاً إلى مساءلات. لذلك كان في إخفاء الحقائق والتلاعب بها، مهارةٌ يتمتّع بها كما يُقال السياسيّون، لكن لا يعني أن جميع السياسيّين على هذا النمط، هناك استثناءات، وربما الكثير، فمثلما تُغرقنا السياسة في الوحل، تنقذنا منه، لا دولة تنشد الحقيقة من دون انتهاج سياسات عادلة.
لم يشهد البشر مثل هذا الإقبال على الثقافة، مع النقمة على تقصير المثقّفين في عصرنا هذا المتمتّع بالعقلانية، والزاخر بالمعرفة، ترفدهما سهولة الوصول إلى المعلومات، لكن ليس من السهل الوثوق بها تحت سيل من وسائل الإعلام التي تُمطرنا بالأكاذيب وتقصفنا بالخزعبلات، تحت عناوين جذّابة تنحو إلى الاستسهال والمزيد من التسلية المجّانية.
تعتقد وسائل الإعلام التي يقوم عليها أناس، منفّذو سياسات ومروّجو دعايات وادعاءات... أنَّ الحقيقة الوحيدة هي رفع أرقام المشاهدات، وما تدرّه من إعلانات، ما يؤدّي حسب زعمهم إلى طمأنة الناس إلى واقعهم على أنه الأفضل، وفي تقدّم وانتعاش مستمرَّين، ما يوجب، أن يخضعوا أكثر، ويستهلكوا أكثر، ويصمتوا أكثر، ويستمعوا أكثر، ويقتنعوا أكثر، ويموتوا أكثر ... سلسلة لا تنتهي من العيش الرغيد.
هكذا الحياة في عالم خطر. فالأكاذيب تصبح بمثابة الحقائق الدامغة، ما يدفع الموالين العميان إلى اتخاذ ما يتعدّى المواقف الخطأ إلى مواقف عدائية، والاعتقاد أنها تمثّل مصالح الدولة والمجتمع، والتحريض ضد آخرين يطالبون بالعدالة والحرية، والتجنّد للقضاء عليهم، وعدم التورُّع عن الدفاع عن سياسات ظالمة على أنها العدالة، وأنهم على حق وغيرهم على باطل... هذا تحت تأثير المثقّفين جنود الدولة الشمولية، يعملون على تضليلهم بدعوى أنهم يسلكون الطريق الصحيح، إلى حد التضحية بأرواحهم من أجل سلطة تنهب وتسرق وتقتل.
يتشدق هؤلاء بالحرية، لكن لا حرية بلا مسؤولية، إذا فهمنا جيّداً ماذا تعني الثقافة، وماذا يعني المثقّف؟ لا ثقافة من دون قدرة المثقّف على التأثير، سواء بالمنطق أو بالجدل، وتقديم مثال على تطابق الفكر مع العمل.
من العبث الاعتقاد بأن المثقّف يستأثر بالحقيقة. إنّ القوة التي يتمتّع بها، هي دوره كباحث عنها، والدليل إليها وعليها أيضاً. ترتبط الحقيقة بالمثقّف سواء نجح أو أخفق في العثور عليها. هذا هو المثقّف، إنه على الدوام في حالة تقصٍّ واجتهاد.