المجتمع المدني التونسي صنيعة الدولة وأداتها
يناقض هذا القول كل الأطروحات السياسية الرائجة بشأن نشأة المجتمع المدني وتطوره، وعن أدواره في التجارب الديمقراطية المعروفة عبر التاريخ الحديث للسياسة والاجتماع، ولكننا نجد عليه في التجربة التونسية مثالاً يكشف أن الدولة التونسية هي التي اصطنعت المجتمع المدني، وكيّفته واستعملته في حدود ما أرادت، فصار أداة حكمها الأعلى كفاءة والأشد تأثيراً تمهد به رقاب الناس، فلا تحتاج إلى الإخضاع العنيف. ولذلك، تحتاج تجربة المجتمع المدني التونسي إلى تفكيك بغير أدوات التحليل الكلاسيكية.
أهم علامات المجتمع المدني التونسي هي النقابة. وُلدت في تونس قبل دولة الاستقلال، ويعتبرها التونسيون أكبر علامة على مجتمع مدني عريق، بل يذهب بعض أنصارها إلى أنها صنعت الدولة، فقد فرضت النقابة برنامجها الاقتصادي والاجتماعي على عقد الستينيات، وظلت ترافق الدولة في نزاع مستمر مرافقةً فرضت مكاسب كثيرة لا ينكرها إلا جاحد. ولكنها في طريق الرفقة الدائمة، تحولت وسيلة ضغط سياسي على الاحتجاج الاجتماعي، وكيفته لمصلحة النظام السياسي، وخصوصاً بعد أن أيقنت طبقة من النقابيين أن مواجهة النظام، على طريقة النقابات الحمراء، عملية فاشلة، لا تنتج مصالح للنقابيين، وهي القناعة التي حكمت سياسة المنظمة طوال عقد الثمانينيات وطوال مرحلة الرئيس زين العابدين بن علي (23 سنة).
لكن النقابة ليست العلامة الوحيدة، فقد سبقت نخبة تونسية ليبرالية ويسارية إلى تأسيس رابطة لحقوق الإنسان، فرضت مكاسب كثيرة، وحدّت من تغوّل النظام السياسي، ومنحت النخبة غرفة حوار سياسي متقدمة، على الرغم من الخلافات الأيديولوجية بين مكوناتها. وبالتوازي، كانت حياة حزبية تعدّدية تنشأ وتترسخ، وتفرض مكاسب صغيرة، لكنها لم تفلح في فرض تعدّدية فعلية في صندوق انتخابي نظيف وغير مزور طوال 40 سنة.
وُلدت النقابة في تونس قبل دولة الاستقلال، ويعتبرها التونسيون أكبر علامة على مجتمع مدني عريق، بل يذهب بعض أنصارها إلى أنها صنعت الدولة
وطبعاً ليست هذه العلامات الوحيدة، فاستقلال الجامعة عن السلطة يعتبر من ركائز مدنية الدولة، ويمكن أن تضاف علامات أخرى، بما يجعل هذه المقدّمة مناقضة لعنوان هذه المقالة. ولكن على الأرض لم يجرِ الأمر كما في الدعاية التي مجّدت هذه العلامات المدنية. لقد مهّد النظام لهذه المؤسسات، وفتح لها بوابات عمل، وقنّن حركة المثقفين والسياسيين، بحيث تصبّ في قوالب تحت الرقابة، واستمرأت النخبة نصف الحرية، ونصف النضال، أو أقل من النصف في محطات كثيرة، بما جنّبها دفع ثمن حقيقي لمدينة الدولة، ولتشكيل مجتمع مدني حقيقي فعال. لقد تحرّك الجميع تحت سقوف محددة مسبقاً، بما أنتج مجتمعاً مدنياً مراقباً وموجهاً. صارت مهمته، مع الوقت، منع توسع كل دعوة مدنية من خارج هذه المؤسسات.
طاب للنخبة أن تعيش في الزواريب التي حدّدتها السلطة، فتحولت إلى أدوات حماية النظام من كل حراك شعبي قاعدي خارج عنها، فصارت هي وسيلة النظام للتأطير والتقييم، وأداته لمنع توسيع قاعدة السياسة خارجها. لقد استولى النظام السياسي الفاشي، في جوهره، على وهم مؤسساتٍ مدنية قبلت بالدور، وكانت إحدى أهم معاركها حماية النظام من المعارضة الإسلامية الجذرية التي كانت ممنوعةً من الاقتراب من هذه المؤسسات، أو الاعتماد عليها فعلاً.
استمرأت النخبة نصف الحرية، ونصف النضال، أو أقل من النصف في محطات كثيرة، بما جنّبها دفع ثمن حقيقي لمدينة الدولة، ولتشكيل مجتمع مدني حقيقي فعال
هذه كانت بعض وجوه استعمال النظام الفاشي المجتمعَ المدني التونسي عبر مراحل تطوره. لقد فتح النظام السياسي معاركه ضد كل صوتٍ يعارضه، وكانت هذه المؤسسات من وسائله. كانت النقابة تدار بعلم النظام، وبشخصياتٍ يعرف طبيعتها، بل رباها في محضنته السياسية، وكان أهمّ أعمالها منعَ الإسلاميين من دخولها، والاحتماء بها من تغوّل النظام. إذا كان هناك وهم سابق أوجده النظام نفسه، خصوصاً بعد عام 1978، فإن من دخل النقابة فهو آمن، يمكنه المعارضة بشروط. وبهذا كانت النقابة جاهزة لتبرير سياسات النظام في الوقت الذي أراد ذلك، فبرنامج الإصلاح الهيكلي ما كان له أن يُقبل، لولا موافقة النقابة على التفويت في مؤسساتٍ عموميةٍ، أساء النظام إدارتها حتى وضعها على حافة الإفلاس، ومنها أكثر من خمسة معامل لإنتاج الإسمنت. وكان دعم الإسمنت أكبر الأسباب التي جعلت تونسيين يمتلكون بيتهم الخاص.
كان النظام محتاجاً إلى نصير في معركة البقاء أمام الإسلاميين، فكانت النقابة مؤسسة المجتمع المدني الموهوم، فوضعها حيث أراد، فأدّت الدور أفضل أداء، وعاضدتها رابطة حقوق الإنسان التي حوّلت كل القضايا السياسية التي اتهم فيها إسلاميون إلى قضايا حق عام، تُرجى فيها ظروف التخفيف، لا إسقاط الدعاوى غير القائمة أصلاً، إلا في ذهن النظام ورابطته. ومن قبيل التذكير فقط، فإن الإسلامي الوحيد (سحنون الجوهري) الذي تسرّب إلى الرابطة مات في سجن بن علي، ولم يحظ حتى بعلاجٍ مناسبٍ لمرضه، وإن آخر رئيس للرابطة، المنصف المرزوقي، الذي رفض توصيف قضايا الإسلاميين قضايا حق عام، أكمل حياته مشرّداً في تونس وخارجها، وتخلت عنه الرابطة التي كان رئيسها.
لقد فضلت مؤسسات المجتمع المدني في تونس الإنحياز إلى مشروع النظام، وحمته من كل معارضة راديكالية، بما في ذلك شخصيات يسارية قوية وفاعلة، وليس فقط الإسلاميين. ماذا يبقى من مدنية هذه المؤسسات والأدوات السلطوية إذا كانت ارتضت لنفسها هذا الدور المعادي لكل مدنية.
بعد الثورة في عام 2011، انكشفت هذه المؤسسات أكثر، ولا نرتبك إذا قلنا إنها خانت الثورة، وانحازت إلى الثورة المضادة، فخرّبت المسار الثوري، وبفضلها لا تزال منظومة بن علي تتنفس، بل تحلم باستعادة النظام في المشهد الآن، فالنقابة تقف مع الفاشية، سليلة نظام بن علي، وتمارس العنف الذي كانت تمارسه مليشيات السلطة، وتودّ أن لا يطولها العقاب.
فضلت مؤسسات المجتمع المدني في تونس الإنحياز إلى مشروع النظام، وحمته من كل معارضة راديكالية
قادت النقابة بعد الثورة حركات إضرابية في القطاع العام، وسكتت عن القطاع الخاص، وكانت إضراباتها سبباً رئيسياً في إفشال كل الحكومات المعادية لنظام بن علي، والمنتمية إلى الثورة، وجاءت بها الصناديق الانتخابية. كانت السبب الرئيسي، عبر حوارٍ وطني ترعاه فرنسا، في عودة حزب نداء تونس وحكمه بين 2014 و 2019. ولا تزال تقوم بالدور نفسه، فتحتج فقط، حيث يظهر عدو للنظام (وزراء إسلاميون فقط) وتسكت عن غيرهم.
أما رابطة حقوق الإنسان، فقد خرجت من دائرة الاهتمام، منذ تخلت عن قضايا السلفيين، ولم تحتجّ، ولو ببيان، على إضراب جوع وحشي أودى بهم، فلم يحظوا حتى بمحاكمة عادلة، وقد حبسوا بتهم لم تثبت في محكمة، بل رسّخها إعلامٌ يأتمر بأوامر نظام بن علي، ويديره رجالاته، بعد خلع رئيسهم. هي الآن خلية نائمة لحزب العمال الشيوعي، يوقظها إذا أراد التشهير بإسلامي ارتكب حماقةً في مكان ما.
من مهام تصحيح الأفكار السائدة عن تونس، مراجعة الوهم الذي سوّقته هذه المؤسسات عن نفسها، عربياً خصوصاً، وطبقاً لرغبة النظام نفسه، في وجود مجتمع مدني متطوّر، حمى الناس من تغوّل السلطة. الأصل أن نراها مؤسساتٍ ذات شكل مدني، أعلنت أفكاراً مدنية وأفكاراً حقوقية، ولم تعمل على تنفيذها، بل اشتغلت في مربعاتٍ حدّدها لها النظام.
ما لم يصنعه النظام في تونس من هذه المؤسسات، وتأسس على الرغم منه، أفلح في تدجينه واستخدامه، برضى الذين قدّموا أنفسهم أبطال المجتمع المدني التونسي منذ خمسين عاماً. ولذلك، كانت نتائج عملها دوماً حمايته من السقوط، حين كان الاحتجاج الشعبي يصل إلى ذرى عالية تهدد سلامته.
أول النص المدني التونسي الجديد لما بعد الثورة يكتب ضد هذه المؤسسات، لا بواسطتها أو برغبتها، وقد بدأت الكتابة.