"ما اسم المجرة التي تقع فيها المجموعة الشمسية؟".. قد يبدو هذا السؤال للوهلة الأولى سهلاً للغاية. الأمر لا يحتاج منك سوى أن تسترجع أولويات ما تعلمته عن علم الفلك في المرحلة الابتدائية. ولكن عند إلقاء هذا السؤال على أكثر من ألفي طالب في المراحل التعليمية الابتدائية والإعدادية في مصر، فإن الإجابة كانت غير متوقعة على الإطلاق.
"المجرة الحلزونية".. باغتتني الإجابة عند سماعها للمرة الأولى، خاصة وأنها صدرت من 25 طالبا في صوت واحد واثق من صحة الإجابة. هؤلاء الطلاب كانوا بالفعل قد درسوا تلك المعلومة تحديدا من خلال منهج مادة العلوم، وبالتالي فإنها تعدت كونها من المعلومات العامة، التي قد يعرفها بعض الطلاب المهتمين بالفلك بشكل خاص.
في البداية اعتقدت أن هذه الإجابة خاصة بمشكلة ما تعلقت بتلك المجموعة من الطلبة في ذلك الفصل، في تلك المدرسة تحديدا. إلا أن المفاجأة أن تلك الإجابة الخاطئة عن اسم المجرة تكررت من طلبة فصول أخرى بذات المدرسة، ثم من طلبة مدارس أخرى في ذات المحافظة، ثم من طلبة مدارس عديدة بمحافظات أخرى. لقد تكررت إجابة "المجرة الحلزونية" من أكثر من ألفي طالب في المرحلتين الابتدائية والإعدادية في أكثر من 6 محافظات مصرية مختلفة في مناطق جغرافية متباينة!
تلك الحادثة المؤسفة تلفت نظرنا إلى العوار الذي يعتري تدريس العلوم في مصر. مبدئياً ينبغي أن نوضح أن مصر تحتل المركز 139 في جودة النظام التعليمي عامة، والمركز 131 في جودة تدريس العلوم والرياضيات خاصة - من أصل 140 دولة - وفقا لتقرير التنافسية العالمي لعام 2015 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. ويمكن تلخيص الأسباب التي أودت بنا إلى هذا الوضع المتردي والمزري في ثلاثة أسباب رئيسية.
السبب الأول، هو تسطيح الهدف من العملية التعليمية ككل واختزالها في اجتياز الاختبارات، بهدف الحصول على شهادات دراسية. وبالتالي أصبحت الفكرة المسيطرة على عقول المدرسين والطلاب وأولياء الأمور هي النجاح في الامتحانات، بغضّ النظر عن العلم الذي يتم تحصيله، الأمر الذي أدى إلى تحول الحفظ والاستظهار إلى أولوية بدلا من الفهم والتفكر، فالمهم أن يتمكن الطالب من تذكر المعلومة في أثناء الاختبارات ولا يهم هل فهمها ووعيها حقا أم لا.
اقرأ أيضاً: أبواب السماء: كيف يمكن للعلم أن يدخل البيوت؟
السبب الثاني، هو عدم الربط بين ما تتم دراسته وبين التطبيقات العملية لتلك العلوم. فالطالب يدرس كمّاً هائلاً من المعلومات العلمية في مختلف فروع العلم، لكنه لا يدرك أثر وأهمية تلك المعرفة العلمية في مختلف جوانب حياته اليومية. أضف إلى ذلك تحول تدريس العلوم في مصر إلى دراسة نظرية تخلو من الجزء العملي، وهو الجزء الأكثر أهمية الذي يعمق الفهم والتطبيق للعلم. إن كل هذا يمنع الطالب من إدراك قيمة وأهمية العلم، خاصة في العصر الذي نعيش فيه، مما سيؤدي إلى الوصول إلى طريق مسدود من أجل بناء نهضة الوطن.
السبب الثالث والأخير، هو غياب تدريس المنهج العلمي والتفكير النقدي. للأسف الشديد فإنه لا يتم تدريس المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة والاستنتاج، مما جرد العلم من قيمه الأساسية بالنسبة للطلاب كمنهج لفهم وتفسير كل ما يحيط بنا. بجانب هذا فإن غياب تعليم التفكير النقدي قد أدى لتحول مناهج العلوم إلى نصوص مقدسة، لا يمكن مناقشتها، وساهم في خلق أجيال كاملة خاضعة للانقياد. إن هذا السبب الأخير تحديدا أدى إلى تفشي ظاهرة العلم الزائف في مجتمعنا، بدءا بالـ "كفتة"، ومرورا بالوصفات العلاجية "السحرية" لعلاج السرطان، وانتهاءً بثورة الطلاب "العباقرة والمخترعين" محطمي نظرية النسبية.
ولكن ما الحل؟.. بداية يجب أن يدرك المجتمع ككل، والقائمون على التعليم بشكل أخص أن الزمن أصبح غير الزمن. فالعصر الذي نعيش فيه لم تعد مشكلته صعوبة البحث عن المعلومة وإيجادها كما كان في السابق، بل على العكس تماما فإن الوصول للمعلومات أصبح لا يتجاوز الضغط على عدة أزرار في لوحة مفاتيح حاسوب متصل بالإنترنت، أو عدة لمسات على شاشة هاتف ذكي.
فبدلا من أن يتعلم الطالب كيف يحشو عقله بأكبر كم ممكن من المعلومات، يجب أن يتم تعليمه كيف يبحث عن المعلومة العلمية في الفضاء المعلوماتي. ليس هذا فقط، بل يجب أن يتم تعليمه أيضا كيف يقيم مصداقية تلك المعلومات وكيف يفكر فيها بشكل نقدي ليميز الغث من الثمين. وأخيرا ينبغي أن يتم تعليم الطالب التطبيق العملي لتلك المعرفة العلمية، وكيف يمكن استغلالها في خلق معرفة أخرى أو إبداع تطبيق جديد.
إننا نحتاج إلى ثورة في تدريس العلوم، لأنها السبيل الوحيد لتنوير العقول وتحرير مجتمعنا من قيود الفقر والجهل والتخلف. وإذا لم يضطلع القائمون على التعليم بهذا الأمر، فحري بنا كأفراد أن نحاول إيقاد جذوة تلك الشعلة، كأمل أخير لمستقبل أفضل لأبنائنا.
اقرأ أيضاً:الفائز بنجوم العلوم: إياكم والاستهانة بأفكار أبنائكم
----------------------
* أكاديمي في مجال التواصل العلمي في جامعة إدنبرة في المملكة المتحدة، وكاتب مستقل.