جرت العادة، منذ 129 عامًا (تاريخ السينما)، أنّ أية حركة سينمائية كبيرة ومؤثّرة في الفن الوليد، يتزامن معها وعيٌ نقدي قادر على استيعاب ما يحدث وتحليله، بما يُثري الحركة ويدعمها. المثل الأبرز كامن في مجلة "دفاتر السينما"، الصادرة عشية "الموجة الجديدة" في فرنسا، التي أتاحت الفرصة لمن صاروا لاحقًا رموزها كمخرجين أن يكتبوا عن علاقتهم بالأفلام ورؤيتهم إياها. كان الناقد والمنظِّر والكاتب أندره بازان، أحد مؤسّسيها عام 1951، ومُساهمًا بشدّة في الحراك الذي غيّر شكل السينما وقواعدها نهائيًا.
في المقابل، لم تكن هناك مساحة كـ"دفاتر السينما" في العالم العربي، وفي مصر تحديدًا، أكبر دولة عربية تملك سوقًا وصناعة سينمائيتين، وشبكة إنتاجٍ للأفلام. للأسف، لم تكن هناك مجلة عربية كتلك الفرنسية، تصدر وتستمر في الصدور، وتساهم في حراكٍ كبير من أي نوع. حتى المحاولات الجادّة لتحقيق هذا الأمر، خلال سنين مديدة، واجهت عقبات كثيرة أفشلتها، قبل أن يصبح الوضع أصعب في الأعوام الأخيرة، بسبب تغيّر شكل النقد وتلقّي الجمهور للأفلام، وبات إصدار مجلة سينمائية عربية متخصّصة، قادرة على التفاعل مع المشهد والمساهمة في تيار، حلمًا بعيد المنال.
بين نقد جاد ومجلات نجوم
رغم أن صناعة السينما في مصر بدأت باكرًا، وواكبت العالم، إلاّ أن الاهتمام بعنصر الثقافة السينمائية وتناول هذا الفن جدّيًا لم يكونا كافيين. بحسب محمود قاسم، في مقالة له منشورة في جريدة "القاهرة" عام 2009، فإنّ المجلات السينمائية الصادرة بين ثلاثينيات القرن الـ20 وستينياته، كـ"عالم السينما" و"الصُوَر المتحرّكة" و"إيماچ" و"الاستوديو"، أصدرها أفرادٌ على نفقتهم الخاصة، وانتهت سريعًا بسبب فشلها التجاري، في مقابل محاولتها تقديم محتوى نقدي جاد.
ومع الانحدار العنيف الذي عاشته السينما المصرية منذ نهاية الستينيات الفائتة، وانسحاب الدولة من إنتاج الأفلام، بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر (28 سبتمبر/أيلول 1970)، شهدت المجلات تراجعًا واضحًا، واهتمّ الصادر منها بالنجوم وحكاياتهم وكواليس الوسط الفني ونمائمه، أكثر من الاهتمام بالأعمال نفسها. أبرز تلك المجلات كانت "الكواكب" (تصدر عن "دار الهلال")، ولاحقًا "أخبار النجوم" (الصادرة عن المؤسّسة القومية "أخبار اليوم")، وغيرهما.
ورغم الحراك السينمائي الكبير في ثمانينيات القرن المنصرم، مع مخرجي "الواقعية الجديدة"، كما أسماها الناقد سمير فريد، لم تصدر مجلة تواكِب ما يحدث، وظلّت الكتابات الجادة حينها جهودًا فردية لنقّاد مختلفين ينشرون مقالاتهم في مطبوعات صحافية أو كتب، بين حين وآخر.
مجلتا التسعينيات والنقلة الكبرى
مع مطلع التسعينيات الفائتة، أسّس سمير فريد مجلة "السينما والتاريخ"، بهاجس ووعي واضحين بالتأريخ والأرشفة، أو كما كتب في افتتاحية العدد الأول: "حتى يساهم نقّاد السينما في كتابة تاريخ السينما العربية، الذي لم يُكتب بعد". المجلة فصلية، ومعنية تمامًا بالقراءات النقدية والفنية وبالتحليل التاريخي، واستمرت 3 أعوام، صدر خلالها 12 عددًا فقط، قبل أن تتوقف بسبب الصعوبات المالية.
بعدها بأعوام عديدة، ظهرت تجربة بارزة في تاريخ الصحافة السينمائية في مصر، متمثّلة في "الفن السابع"، وهي شهرية، موّلها الممثل محمود حميدة، وترأّس تحريرها الصحافي محمود الكردوسي. نقلة استثنائية في مواكبة العالم، تميّزت بجودة تقنية، إذْ أصرّ حميدة على عدم التهاون فيها، وعلى طباعتها في بيروت، وبالألوان، وبأفضل جودة ممكنة، وبتكلفة شهرية تقترب من 10 آلاف دولار أميركي. والأهمّ من ذلك، كان التطوّر الكبير في المحتوى والكتابة والتحليل السينمائي، وإتاحة الفرصة لأقلامٍ شابة وجديدة لتصدّر المشهد، وتقديم شكل مختلف من المواضيع والكتابة الصحافية المعنية بالسينما بشكل جاد.
خلال أربعة أعوام، بين ديسمبر/كانون الأول 1997 وأغسطس/آب 2001، صدر 44 عددًا من "الفن السابع"، فكانت أهم مصدر للثقافة السينمائية في مصر، وظلّت أعدادها تحتفظ بقيمتها، حتى بعد 18 عامًا من توقّفها عن الصدور.
بعد إغلاق "الفن السابع"، صدرت مجلات سينمائية حاولت أن تملأ الفراغ الكبير، وأن تستفيد من التجربة المنتهية، كـ"سينما أونلاين" (نصف شهرية، صدرت لمدّة عامين بدءًا من 2002)، ثم المجلة الشهرية الأطول عمرًا "غود نيوز سينما" (نوفمبر/تشرين الثاني 2003 ـ يونيو/حزيران 2009). في الحالتين، كانت هناك محاولة لتناول السينما بشكل أكثر جماهيرية من المحتوى الجاد لـ"الفن السابع"، والكتابة الخفيفة عن الأفلام المعروضة في صالات السينما لحظة إصدار العدد، ما ضمن نجاحها لبعض الوقت، خصوصًا بالنسبة إلى "غود نيوز سينما"، المتوقّفة عن الصدور بسبب عقبات مالية، ولعدم قدرتها على تغطية تكلفة طباعتها وأجور كتّابها.
منذ تلك اللحظة، ولعشرة أعوام كاملة، لم تصدر مجلة سينمائية بشكل مستقرّ وثابت وذي أثر. صحيح أن هناك فصليتي "أبيض وأسود" (قصر السينما) و"الفيلم" (جمعية "الجيزويت" في القاهرة)، لكن محاولات وتجارب عديدة تفتقد جمهورًا كافيًا، ولا أثر لها يُذكر.
ولعلّ التغير الأبرز في تلك الأعوام، الذي لا يبشّر باحتمال صدور مجلات جادّة مستقبلاً، كامنٌ في شكل التلقّي، وعلاقة المتفرّج بالسينما، خصوصًا في العقد الأخير، بسبب "إنترنت" ومواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل الكتابة الشخصية والآراء الذاتية عن الأفلام أمرًا معتادًا وأكثر انتشارًا، ولم يعد أحدٌ ينتظر أسبوعين أو شهرًا لقراءة مجلة تتناول فيلمًا معروضًا في الصالات. لم يعد أحدٌ راغبًا في دفع المال لشراء أي منها، طالما أنه يُمكن بسهولة استطلاع آراء الجمهور، والاطّلاع على مقالات سينمائية عديدة بفضل الوسائط الجديدة، بل وكتابة رأي ونقد ووجهة نظر. ورغم الجانب الإيجابي في ذلك، المتمثّل في حرية تداول الآراء وعدم احتكارها من فئة محدّدة ومتخصّصة (النقّاد)، إلاّ أن هذا نفسه يحمل جانبًا سلبيًا، لأن المادة الجادة في التثقيف والتحليل لم تعد مطلوبة، وغير مُواكبة لسرعة اللحظة الزمنية الحالية. وأصبح صدور مجلة ـ تواكب حراكًا سينمائيًا مصريًا أو عربيًا ـ حلمًا يصعب تحقيقه.