غنّى جورج وسوف باللهجة العراقية: "سلّمتك بيد الله" صيف العام 1991. وكنّا نصطاف مع كويتيين صاروا أفرادا من العائلة. سمعنا اللحن والكلمات على قاعدة "التعاطف يعشق قبل الأذن الموسيقية أحيانا".
مرّت بضعة شهور قبل أن نتلقّى تدريجيا اسم المغنّي والملحّن الأساسي لتلك الأغنية. صرخ بائع الكاسيت في سوق البربير الشعبي ببيروت: "سلّمتك بيد الله بصوت العراقي كاظم الساهر"... وصوت الساهر، ولكنته، إضافة إلى اللّحن، جعلت منه بوّابتنا إلى اكتشاف إيقاع الموسيقى العراقية التي كنّا نعرف منها اسمين فقط: سعدون جابر وناظم الغزالي.
وُجِدَت صورة للساهر صيف العام 1992 قبالة كورنيش الروشة في بيروت. كان إعلانا عن حفلة يحييها المطرب العراقي، الذي أخذت الطلبات تتزايد على أغنياته. وأضاف الساهر أغنية "عبرت الشطّ" إلى رصيده.
بدا شكله عراقيا تماما كالذين نزحوا من أبناء موطنه إلى بيروت بعد الحرب. واحتلّت صور إعلانات حفلاته الجدران، بأنفه المروّس، وملامحه الحادة وتسريحة شعره وقميصه الملوّن.
مشينا مع الساهر في درب تألّقه خطوة بخطوة، حتّى أهدانا أغنية "يا رايحين لبنان، ودّوا حبيبي سلام، قولولو من الساهر، لعيونو أحلى كلام".
فتح كاظم بوابة بيروت، بأناقة ولياقة أبناء موطنه. وأدرك سريعا إيقاع المدينة التي كانت تدخل مرحلة العمران العام 1993. راقصنا في أغنية "هذا اللون" وأصبح رقما جديدا في عالمنا الموسيقي بعد أغنية "سلامتك من الآه".
كان لا بدّ لأيّ مراهق في مدرسة الحبّ أن يلجأ إلى شعر نزار قباني. دفعنا الساهر أكثر بهذا الاتجاه عبر رائعته "إنّي خيّرتك فاختاري". وأدرك المطرب العراقي سريعا من أين تؤكل كتف النجاح العربي، عبر قبّاني، فمشى يقتطف أجمل قصائده كما لو أنّه أستاذنا في عالم القبّاني. وصارت الأحرف المكتوبة في الدواوين التي نشتريها من معرض الكتاب العربي جملا موسيقية. وأيّ لحن كان الساهر يحكيه!
انتهت التسيعينيّات بالساهر قيصرا.
بعد كاسيت "مدرسة الحبّ"، و"زيديني عشقا" و"قصيدة ليلى" وغيرها، فتح الشارع العربي كلّه ذراعيه أمام الساهر. قلنا له: نحبّك، فازدادت وسامته، واستحقّت إطلالته اللقب. لم يشهد التاريخ العربي قياصرة بالمعنى التقليدي. كان جميلا أن يكون الموسيقار العراقي قيصرا يحترم الكلمات.
ترك الساهر فينا من العراق وصيّة!
نجحت أوبريت العالم العربي في العام 1998، لكنّها لم تحجب تلك الوصية. في صيف ذاك العام كان وسط بيروت يحتفي بتلك الأوبريت مباشرة. خرج الساهر إلى المسرح منفردا ليترك أغنية أضحت لازمة مع المشهد العراقي ولم تزل.
غنّى القيصر: تذكّر كلّما صليت ليلا / ملايينا تلوك الصخر خبزا / على جسر الجراح مشت وتمشي / وتلبس جلدها وتموت عزّا / تذكّر قبل أن تغفو على أيّ وسادة / أينام الليل من ذبحوا بلاده؟".
لم ننم جيّدا، منذ مراهقتنا حتّى الآن. أضفنا إلى الهمّ العراقي جرحا بات كسرب حمام من تونس إلى دمشق، لكنّنا ما زلنا نحبّ كالمراهقين. نحضن حبيباتنا، جميلاتٍ كنّ أو أوطانًا، ونغنّي: "قولي لي، قولي لي، كيف سأنقذ نفسي من آلامي وأحزاني؟".