المزاج العام الغربي ينزاح إلى نصرة فلسطين
يلحظ المتابع لتداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، المستمر منذ فجر يوم السابع من يوليو/ تموز الماضي، حصول انزياح واضح في المزاج والرأي العام الغربي لجهة نصرة القضية الفلسطينية، ما تمثّل بمظاهر غضب على العدوان، عمّت عشرات المدن الأميركية والأوروبية، وقد تشكلت لجنة تضامن طارئة أميركية ـ أوروبية، أعلنت عن إطلاق عشرات الفعاليات والتظاهرات اليومية، ضمن برامج احتجاجية على استمرار العدوان. وتشمل قائمة المدن التي ستجري فيها الفعاليات المدن الأوروبية في فرنسا وإسبانيا واليونان وإيرلندا والسويد: تولوز، بوردو، رومان سور إيزير، نيم، بيسانسو، أثينا، ساليرنو، ساراغوسا، مولمو، دبلن، بلفاست. والمدن الاميركية: نيو هافن، كليفلاند، ميلووكي، ممفيس.
وانتظمت تظاهرات في عدة مدن في الولايات المتحدة، نددت بالمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وكانت التظاهرة الأهم في نيويورك، في ميدان "تايمز"، وامتدت من مبنى البلدية "سيتي هول"، إلى أمام مبنى القنصلية الإسرائيلية، ثم طاف المتظاهرون على مبنى الأمم المتحدة ومبنى مجلس الشيوخ في الولاية. وقال مشاركون في التظاهرة: "كان المسلمون متفاعلين كثيراً مع غزة، وكذلك يهود أحرار رافضون للعدوان، وكذا أميركيون بكل أطيافهم، خصوصاً الاشتراكيين".
وشهدت أوروبا تظاهرات ومسيرات تضامنية عديدة مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومنددة بالمجازر الإسرائيلية، وكانت الأكبر في لندن، وهي الخامسة في العاصمة البريطانية منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وقد شارك فيها مئة ألف متظاهر، معظمهم بريطانيون. ورفع المشاركون في المسيرة أعلاماً فلسطينية ولافتات تطالب بإنهاء الحصار على غزة ووقف العدوان عليها، وأطلقوا هتافات ضد إسرائيل، وأخرى تطالب الحكومة البريطانية بالتحرك من أجل إنقاذ المدنيين الأبرياء. وتشهد لندن فعاليات يومية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، منذ بدأت
الحرب على غزة. واللافت أن نشطاء يهوداً عديدين شاركوا في الاحتجاجات التي شهدتها لندن ضد إسرائيل، كما شارك عديدون من أعضاء البرلمان البريطاني ورموز الأحزاب الرئيسية المختلفة في بريطانيا.
وانطلقت مسيرات وتظاهرات منددة بالعدوان في عواصم ومدن أوروبية عديدة، منها باريس واستكهولم وبروكسل، ومدن ألمانية، وشارك آلاف الأوروبيين المتضامنين مع القضية الفلسطينية في تلك الفعاليات والحراكات الشعبية الداعية إلى وقف جرائم اغتيال الجيش الإسرائيلي الأطفال في قطاع غزة، بقرار من مجرمي الحرب في المؤسسة الإسرائيلية. وكانت هيئات مجتمعية أوروبية وأميركية قد بدأت، قبل العدوان على غزة، بقطع علاقاتها مع إسرائيل، نظراً لسياساتها الاحتلالية غير الشرعية ضد الشعب الفلسطيني.
مقاطعة غربية
بدأت دول وشركات أوروبية بمقاطعة التعامل مع المستوطنات منذ أكثر من عامين، نظراً إلى أن هذه المستوطنات معالم احتلالية غير شرعية، وثمة إمكانية لامتداد تطبيق سياسة الاتحاد الأوروبي، القاضية بمنع التعاون مع المستوطنات، وخطوات أخرى مجمدة حاليّاً، ووضع علامة على منتجات المستوطنات، وإعداد قائمة سوداء بأسماء سكان المستوطنات الذين يطلبون تأشيرة دخول، والتحذير في عواصم الاتحاد الأوروبي من التعاون مع محالّ تجاريّة في المستوطنات، وداخل الخطّ الأخضر خلال عامٍ أو اثنين. وهناك تخوف إسرائيلي من إجراءاتٍ قد يقوم بها الاتحاد الأوروبي، بغية التشجيع على أجواء قد تؤدي إلى مقاطعة كاملة لإسرائيل، ما سيجعلها دولة منبوذة. وكانت هذه الأحاديث قد خرجت من جلسة مغلقةٍ عُقدت قبل فترة وجيزة في فرع أوروبا الخاص بوزارة الخارجية، وبمشاركة جميع سفراء إسرائيل في دول الاتحاد الأوروبي. وعقدت الجلسة في إطار مؤتمر السفراء السنوي.
ولم تتوقف مقاطعة إسرائيل وعزلها عند حدود الاتحاد الأوروبي، بل هناك مؤشرات حول امتعاض مؤسسات أميركية من الممارسات العنصرية الإسرائيلية. وقبل فترة وجيزة، صوتت جمعية الدراسات الأميركية (ASA)، وهي أكبر جمعية أكاديميين أميركية، بغالبية الأصوات على إقرار مشروع قرار بفرض المقاطعة الأكاديمية على اسرائيل. وأفادت المعطيات بأن 66% من أصل 1252 عضواً شاركوا في عملية التصويت، أقروا فرض مقاطعة أكاديمية على إسرائيل، لأن الأكاديميات الإسرائيلية شريكة في انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني.
عوامل التغيّر
ثمة عوامل دفعت إلى تغيّر الرأي العام في الغرب، في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في مقدمتها وجود جاليات عربية وإسلامية كبيرة في تلك الدول، منحازة إلى الحق الفلسطيني والحقوق العربية، ما ساعد في توضيح صورة إسرائيل العنصرية ضد العرب الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة، خصوصاً مع
تسارع وتيرة ثورات المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار الفضائيات التي تنقل حقائق حول السياسات العنصرية ضد الفلسطينيين باللغتين العربية والانكليزية، مثل فضائية الجزيرة.
ومن العوامل المهمة التي سارعت في تغيّر الرأي العام الغربي، أيضاً، انكشاف صورة إسرائيل العنصرية التي وصلت إلى حد الفاشية، في السنوات الأخيرة، أمام دول العالم وشعوبه، بسبب استصدار مزيد من القوانين التي تعزز فكرة يهودية الدولة، لتهميش دور الأقلية العربية، وكذلك الاستمرار في النشاط الاستيطاني في عمق الضفة الغربية، وخصوصاً في القدس. ومن أخطر القوانين الإسرائيلية العنصرية، منع التزاوج بين الأقلية العربية وأقرانهم في الضفة والقطاع، وحرمان العرب الفلسطينيين من إحياء ذكرى نكبتهم، وقانون آخر يفرض على كل شخص يحمل الهوية الإسرائيلية القَسَم على يهودية الدولة، ما يهدد بسحب الهوية الإسرائيلية من الأقلية العربية.
وقد اتضحت عنصرية إسرائيل ونازيتها، أكثر من أي وقت مضى، في أثناء العدوان على قطاع غزة منذ بدايته، حيث ارتكب الجيش الإسرائيلي مجازر مروعة، وخصوصاً في حي الشجاعية. وقد قتل الجيش في الأسابيع الثلاثة الأولى من العدوان، 1400 مدني فلسطيني، جلّهم من النساء والاطفال والشيوخ، ودمرّ 1500 منزل تدميراً كلياً، الأمر الذي سرّع من انزياح الراي العام الغربي لنصرة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتنديد بالمجازر الإسرائيلية التي تُرتكب.
الاستثمار الأمثل لتغيّر الرأي العام
على خلفية المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، أكد خبراء في القانون الدولي أن مسعى السلطة الفلسطينية إلى الانضمام إلى المعاهدات والمواثيق الدولية يعزّز
المكانة القانونية للسلطة، في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية إلى إخضاع الفلسطينيين على امتداد فلسطين التاريخية، وتهويد أرضهم بقوة المجازر، بيد أن كثيرين يرون أن المسعى الفلسطيني لن يكتمل من دون الانضمام إلى اتفاقية روما، والتي تتضمن الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، حيث تُمكِّن الفلسطينيين من ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، ورفع دعاوى جنائية ضد مسؤولين إسرائيليين عن آلاف الجرائم منذ عام 1948، وحتى المجازر التي تُرتكب يومياً في قطاع غزة في العدوان الراهن. وهناك خبراء عرب قادرون على التعاطي مع تلك الدعاوى، وبالتالي، سَوق مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى المحاكم الدولية، ومعاقبتهم في نهاية المطاف. ويمكن توصيف أصحاب القرار وقادة الاحزاب والقادة العسكريين، ومؤسسات إسرائيلية، بمجرمي حرب، فالنشاط الاستيطاني، والإخلال في التركيبة السكانية، والتهجير، والاعتقال والتقتيل اليومي للمدنيين في قطاع غزة، وخصوصاً للأطفال والنساء، تعتبر، وفق القانون الدولي، من جرائم الحرب التي يعاقب عليها.
ويبقى القول إنه، وبعد انزياح الراي العام الغربي إلى نصرة الشعب الفلسطيني، واتساع ظاهرة مقاطعة إسرائيل بسبب انكشاف صورتها العنصرية، بعد قتل مئات من المدنيين في قطاع غزة، وخصوصاً الأطفال، لا بد من تبني خطاب سياسي وإعلامي فلسطيني موحّد، يعتبر كل السياسات الإسرائيلية على امتداد جغرافية فلسطين التاريخية، عدواناً على الشعب الفلسطيني، ومن شأن ذلك استمالة مواقف دولٍ كثيرة إلى جانب الحق الفلسطيني، وبالتالي، اتساع ظاهرة مقاطعة إسرائيل، وعزلها في نهاية المطاف.