خرج مصطلح "أزمة المسرح" من التداول مع انعطافة الألفية الثالثة، بعد أن سيطر على مدى العقدين الأخيرين من القرن الماضي على الحياة المسرحية ليس في الثقافات المسرحية الناشئة فقط، بل في مختلف أنحاء العالم وفي المراكز الكبرى للإنتاج المسرحي.
انتبه بعض المبدعين والمفكرين إلى هذا الطابع الكوني للأزمة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأشاروا إلى ما انطوى عليه هذا المصطلح من غموض وقصور في توصيف حالة المسرح الذي بدا أنه ينوء تحت عبء أحلام كبيرة ورثها عن أجيال راهنت على الحلم البريختي بمسرح يغير العالم.
تجلى قصور المصطلح في السؤال التالي: هل هي أزمة مسرح أم أزمة ثقافة؟ وكان نقاد ثقافة ما بعد الحداثة قد وضعوا السؤال في سياق ثقافي عام حين أشاروا إلى التهميش المنهجي الذي تمارسه ثقافة المجتمع المشهدي تجاه المسرح.
وفي عالم أصبحت فيه الصور والرموز بديلاً عن الواقع، وأصبحت علاقة الإنسان بهذا الواقع محكومة من قبل منظومات إعلامية شمولية حوّلت العالم إلى سديم من الرموز والصور التي استقلت عن مرجعياتها التاريخية والواقعية، فقدَ المسرح مكانته وفعاليته كأحد الفنون المؤسسة للثقافة الحديثة.
دفع هذا التهميش المسرحيين، في مختلف أنحاء العالم، إلى البحث عن أدوات جديدة لإعادة طرح أسئلة المسرح وفعاليته ودوره في حياة الإنسان المعاصر في سياق جديد. ففي أوروبا وأميركا، عمل المسرحيون على إعادة التجربة المسرحية إلى سياق الفعل الاجتماعي عبر ربطها بخطاب المقاومة الثقافية في تسعينيات القرن الماضي. رأى هؤلاء أن فعالية المسرح، كأحد الفنون الراقية، تبدأ من قدرته على مقاومة وتفكيك لغة المنظومات الإعلامية الشمولية.
المسرح قادر بسبب طبيعته كتجربة تواصل حية ومباشرة بين العرض والجمهور على تفكيك آليات التغريب التي تعمل بدأب على قتل المعنى أو التهامه، بحسب مفكري ما بعد الحداثة، عبر فك الارتباط بين الدال والمدلول، بين الرمز ومرجعيته وبين الصورة والواقع بحيث تصبح هذه التمثيلات كلها واقعاً بديلاً مطلق السلطة على وعي الإنسان، ويصبح هذا الإنسان غريباً عن واقعه.
وحده العرض المسرحي، كما رأى المسرحيون الجدد، على تخوم الألفية الثالثة يمتلك تلك القدرة على إعادة العالم إلى ألفة الجسد الحي، وعلى إخراج الإنسان من غربة الرموز ومنفى الشاشات ومنحه فرصة العودة إلى فضاء التواصل الحي مع الواقع.
نهضت الثقافة المسرحية الجديدة في هوامش الإمبراطوريات الإعلامية التي كانت قد تحولت إلى منظومات سلطوية شمولية. بدأت هذه الهوامش تتسع حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها في تجارب مسرحية عديدة، لعل من أبرزها كتابات سام شيبرد الذي قدمت بعض مسرحياته مساهمة في تفكيك خطاب تلك الإمبراطوريات الصاعدة في زمن الحروب المتلفزة.
أما في الثقافات المسرحية الناشئة فكان مصطلح الأزمة أكثر تعقيداً بسبب ارتباطه بانهيار مشاريع النهضة والتحديث الوطنية وصعود الأصوليات البديلة لخطاب الحداثة المأزومة. ويشكّل المسرح العربي نموذجاً هاماً لهذه الحالة، فالمسرح العربي ولد في القرن التاسع عشر كابن شرعي للنهضة العربية وكان عليه أن يكون فضاء لمشروع الحداثة.
هل يمكن للمسرح العربي في هذا السياق أن يكتشف أسئلة جديدة يستعيد من خلالها علاقته بالواقع، وأن يبتكر أدوات تمكنه من أن يكون جزء من الثقافة المسرحية العالمية المقاومة لقدر الاغتراب والتسطيح والاستهلاك وثقافة الحروب الجديدة؟
رغم صعوبة الإجابة على سؤال كهذا في خضم الانهيارات والتحولات التي تعصف بالمنطقة، إلا أن التجارب، التي يقوم بها الشباب في الدول العربية وفي المنافي والمهاجر وعلى خطوط نار الحروب، تقول إن روح الحياة في الأجيال الشابة لن تستسلم لأقدار الموت والعبث. وستتمكن في وقت ما من المساهمة في صنع ثقافة مسرحية جديدة.
صحيح أن كل تلك التجارب تنتمي إلى هوامش ضيقة ومحاصرة في المجتمعات العربية، لكن كل ما نجح في تطوير ثقافة مسرحية جديدة في كل أنحاء العالم بدأ من الهوامش، ويبدو أن قدر المسرحيين الشباب في المجتمعات العربية أن ينهضوا من الهوامش ليواجهوا آليات التغريب والتسطيح والعنف التي تعصف بمجتمعاتهم.