على الرغم من المظاهرات المعادية التي استقبلت الرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيارته إلى المملكة المتحدة، في لندن ثم في إدنبره وغلاسكو في اسكتلندا، يبدو أن الحكومات تسير باتجاه معاكس تماماً، إذ تعكف الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية حالياً على دراسة كيفية الدخول في اتفاقيات تجارة حرة بين البلدين، بعد الانتهاء من صياغة خريطة طريق لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بالإنكليزية ببريكست Brexit.
وقبل لقائه مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، يوم الجمعة الماضي، قال ترامب لصحيفة "ذا صن" إن بريطانيا تمر بحالة اضطراب، وإن ماي تجاهلت نصيحته عن طريق اختيار استراتيجية خاطئة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وحذر ترامب ماي من أن "أي محاولات للحفاظ على علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تضعف من احتمالات عقد صفقة تجارية مع الولايات المتحدة".
إلا أنه عاد بعدها بساعات قليلة ليخفف من نبرته الهجومية، ويعلن أنه مع المملكة المتحدة في أي طريق تسلكه للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأنه يتمنى فقط أن تتمكن الولايات المتحدة وبريطانيا من عقد صفقات تجارية مفيدة للدولتين بعد الخروج البريطاني.
وقد يكون ترامب محقاً بعض الشيء في مخاوفه، ففي حين أن المملكة المتحدة ستقوم بإبرام صفقات تجارية مع الدول الأخرى، إلا أنه من الواضح أن خطة الحكومة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تزيد الأمر تعقيداً.
ويبدو ترامب متحمّساً لتوقيع اتفاقيات تجارية مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، خاصة وقد علم بما قاله سلفه باراك أوباما، الذي حذر المملكة المتحدة من الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقال "لو تركوا الاتحاد الأوروبي ثم طلبوا الدخول في اتفاقيات تجارية، فسيكون عليهم الانتظار في آخر الصف، إذ إن أميركا العاقلة تفضل أن تعقد الاتفاقيات مع مجموعات أكبر من الدول"، بينما يحاول ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض إلغاء كل ما يستطيع من قرارات واتفاقات وقوانين أقرّها أوباما، إذ وصف ترامب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بأنه "قرار ذكي جداً".
ووفقاً للورقة البيضاء التي تم الاتفاق عليها قبل أسبوع، والتي توضح تصور المملكة المفصل عن طبيعة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد بريكست، فإن بريطانيا تستطيع أن تفرض التعريفات الجمركية الخاصة بها، بمعزل عن إملاءات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني إمكانية احتفاظها بتعريفات جمركية منخفضة على وارداتها من الولايات المتحدة، حتى لو رفع الاتحاد الأوروبي التعريفات على البضائع الأميركية الواردة إليه. لكن الاتحاد الأوروبي يمكنه أن يرفض ما جاء في الورقة البيضاء في ما يتعلق بالتعريفات الجمركية، كما أن المعوقات الأكثر تأثيراً في حرية التجارة تشمل القيود المفروضة عليها بخلاف التعريفات الجمركية، وهو ما جعل البعض يرى أن الورقة البيضاء منحازة إلى الاحتفاظ بعلاقات مميزة مع الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد استقالة وزير بريكست ووزير الخارجية البريطانيين احتجاجاً على ما جاء فيها.
وتقول روث لي، الاقتصادية البريطانية المخضرمة والشريك المؤسس لشركة غلوبال فيجين، "في قلب الورقة البيضاء يوجد خطأ اقتصادي، حيث تفترض الورقة أن ازدهارنا يعتمد على البقاء مكبلين بالاتحاد الأوروبي بطيء النمو، إلا أننا بفعلنا هذا نهدر فرصة تطوير علاقات أوثق مع اقتصاد أكثر ازدهاراً بكثير (تقصد الولايات المتحدة). هذا شيء لا يصدق".
وعلى الرغم من إصرار ماي على تأكيد أن بريطانيا ستتمكن من الدخول في اتفاقيات بصورة منفردة مع بقية دول العالم بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الورقة البيضاء تشير إلى أن تبني "كتاب قواعد" مشتركاً مع الاتحاد الأوروبي سيحدّ من قدرة بريطانيا على تغيير القواعد والاتفاقات التجارية التي تطبقها، وهو ما يعني صعوبة توقيع اتفاقات خاصة مع الولايات المتحدة.
وقبل يومين قال وزير التجارة الأميركي ويلبور روس "يتعين على المملكة المتحدة أن تأخذ خطوات لتجنب وجود أية اختلافات تنظيمية غير ضرورية".
وفي قطاع تجارة الخدمات، كالمؤسسات المالية والاتصالات والنقل، الذي كان الاتحاد الأوروبي فيه أكبر سوق للمملكة المتحدة في عام 2017، والذي يشكل نحو ثمانين بالمائة من الاقتصاد البريطاني، فإن توصيات الورقة البيضاء تشير إلى محاولة بريطانيا الحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي على منحها حق الدخول في اتفاقات تجارة حرة مع دول العالم المختلفة. وارتفعت صادرات الخدمات البريطانية للدول من خارج الاتحاد الأوروبي بأكثر من 73% خلال الفترة من 2007 إلى 2017، ومن خارج الاتحاد الأوروبي، تعتبر الولايات المتحدة أكبر سوق في العالم للخدمات البريطانية.
ويوم السبت، نشر الاقتصادي المصري الأميركي الفرنسي الشهير محمد العريان، على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي تويتر، صورة منقولة عن جريدة الوول ستريت جورنال، سخر فيها مما أشارت إليه الصورة عن العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وبريطانيا، التي عبرت فيها كلتا الدولتين عن تمتعها بفائض في تعاملاتها التجارية مع الأخرى.
ورغم أن الجريدة أرجعت سبب هذا التضارب إلى اختلافات في طرق القياس، ضمن أشياء أخرى، إلا أن الأمر برمته يعد ضد كل منطق، إذ لا يمكن في العلاقات التجارية أن تتمتع أي دولة بفائض مع دولة أخرى، إلا ويكون لدى الأخيرة عجز مساوٍ في القيمة تجاه الأولى.
هو تحدٍ كبير إذاً للحكومة البريطانية، لكن الأمر المؤكد هو أن الرئيس الأميركي المعروف بانتهازه الفرص، لن يسمح بمرور تلك الفرصة أمامه دون أن يستغلها في توطيد العلاقات التجارية مع بريطانيا، بما يخدم الاقتصاد الأميركي في الأساس، قبل أي اعتبار آخر.