30 اغسطس 2024
المعارضة السورية.. قراءة من خارج المتاهة
يميل المزاج العام للقوى السياسية السورية، في هذه الأيام، إلى القيام بمحاولات جديدة لتحقيق العمل الجماعي المشترك، ولتشكيل جسم سياسي موسّع، أو إطار ائتلافي جديد، وفق التعابير المتداولة في الوسط السياسي. وهذا ميلٌ له ما يبرّره موضوعيًا وذاتيًا، فما زال العمل المشترك أحد أهم العوامل الضرورية للحل السياسي الذي يحقق مطالب السوريين المشروعة، وينهي مأساتهم المستمرة. ولكن هذا الميل الرغبوي لم يكن كافيًا في الماضي، لتحقيق هذا المشروع، ولن يكون كافيًا في المستقبل؛ فالرغبة في هذا الموضع تصطدم بضعف كفاءتها، وبعدم كفايتها، وبقصور منهجيتها التجريبية؛ فتكثر التجارب، ويكثر تكرار التجارب الفاشلة أيضًا. ولذلك لا يزال التساؤل القديم الجديد بشأن أسباب تكرار الفشل في تشكيل صيغة تعاونية متجانسة سؤالًا محوريًا ومنطقيًا. ويمكن أن نعيد صياغة هذا السؤال، ليتناول تحديد ما يجب أن يتغير في ذهنية العمل السياسي السائدة، لكي يتم تجاوز هذا الفشل المتكرّر. تحمل هذه الصياغة الثانية إشارةً تنتمي إلى جنس الجواب، وتضع الذهنية التي تحكم التفكير السياسي تحت المكبر، لتبدأ محاولات الإجابة الأقرب إلى المنطق، استنادًا إلى نقد الذهنية التي تقبع خلف السلوك والتجارب السياسية. ويبدو أن هذه الذهنية كانت واحدةً في كل تجارب المعارضة المشتركة، وكانت
الثابت في معادلة المقدمات والنتائج السياسية لقوى المعارضة السورية. ومن أهم المتغيرات في هذه المعادلة: الزمن، والمسمّيات، واللاعبون، والداعمون، وربما السلوك والخطاب، والمواقف السياسية لهذه القوى نفسها، لكن الذهنية ظلت دائمًا ثابتة. لذلك نرى أن التوقف عند ماهية هذا الثابت أمرٌ ضروري ولازم. ونقارب مفهوم الذهنية هنا بوصفه منهجية فهم عميقة ثاوية في الأفراد والمجتمعات، تستخدم لمقاربة مختلف القضايا والمسائل. ومن الممكن أن تتغيّر السلوكيات (وربما القناعات) بتغير المكان والزمان اللذيْن يحكمانها، وتبقى الذهنية ثابتةً، وعصيةً على التغير من دون انفصال يقظٍ عن الذات، تمهيدًا لمراجعة عقلانية موضوعية لها. هذا يفسّر عدم تطابق الآراء والمقاربات المنشورة في وثائق بعض القوى السياسية وبياناتها، مع آرائها ومواقفها وتوجهاتها التي تعلنها في اجتماعات القوى السياسية المشتركة؛ حيث يعود ذلك إلى طغيان النمط القديم الموروث على النمط الحديث المكتسب، فيتم قمع الثاني أمام الجماعة لغرض الفخر، لأن الموروث ما زال المصدر التقليدي الراسخ للفخر.
وفي محاولةٍ لتحديد بعض ملامح هذه الذهنية، نعزل بعض مرتكزاتها التي نعتقد أن التغيير يجب أن يطاولها كشرط أساسي لتفكيكها، وهي كالآتي:
أولا، المنهجية الطائفية: يتم فهم الوطن، وفق هذه المنهحية الثاوية في أعماق الشخصية، بوصفه مجموعةً من الطوائف. ويقارِب أصحاب هذه المنهجية مفهومي الـ"نحن" والـ"هم" وفق منطلقاتٍ طائفيةٍ لا يستطيعون تجاوزها (وهذا في العمق ما تشير إليه كلمة "مكونات")، ومن ثم يبنون تحالفات باطنية وثيقة ضمن الجماعة الطائفية، حتى ولو لم يتقاطعوا سياسيًا معهم، وأخرى شكلية ظاهرية مع المختلف (الآخر)، حتى لو تطابقت التوجهات السياسية. ويسعى هؤلاء، في الغالب، إلى الوجود ضمن أكبر عدد ممكن من التشكيلات، غير مبالين بتناقض منطلقاتها أحيانًا.
ثانيا، المنهجية الإثنية: ما ينطبق على الطائفة ينطبق على أبناء العرق والإثنية الواحدة، ومقارباتهم الـ"نحن" والـ"هم"، فيغلب الانتماء العرقي والإثني على الانتماء السياسي، ويصبح الأشخاص (والكتل العرقية) موتورين ومتعصبين، يتذرعون بمفهوم "القومية" البريء مفهوميًا من هذا التوظيف براءةً مطلقة. ولا يرَى هؤلاء في الشخص إلا عِرقه المحدد قبل ولادته، ولا يستطيعون رؤية محمولاته الوطنية إلا شكلًا. بل يترجمون كل مقاربات "الآخر" وفق انتماء عرقي أو إثني، يرفعونه إلى مرتبة المقدس الذي لا يمكن وضعه على طاولة النقاش.
ثالثا، المنهجية الأيديولوجية: هذه نظارة تجعل صاحبها يرى الحياة والأشياء بلونها، ومهما اختلف المنظور وزاوية الرؤية، يبقى اللون بالنسبة له واحدا. تجده يبحث جاهدًا عن التغيير، لكنه لا يستطيع الفكاك من ظاهرة اللون الواحد. أكثرهم ينتمون إلى أحزاب كلاسيكية مؤدلجة، لم تتمكن من مجاراة التطور التاريخي. على الرغم من قناعتهم بضرورة التطوّر، إلا أن منهجيتهم القديمة لا تسعفهم في إنجاز ذلك.
رابعا، الذاتوية المتورّمة: ورم يصيب الذات، فتؤمن بأنها مركز الكون، والوحيدة التي تستطيع التفكير، والتحليل، والعمل في السياسة، وعلى الجميع أن يكونوا تلاميذ أو أن ينفذوا التعليمات من دون نقاش. ويسخّر هؤلاء المرضى معارفهم الظاهرية، أو تاريخهم النضالي، في تعزيز الجهل العميق، وتعزيز الأنانية والسلوك المتعالي. ذلك بسبب فهمهم البدوي للفردانية، وهو الفهم الذي يأخذ على عاتقة إتمام عملية "بدونة الحداثة". وتؤدي هذه المقاربات المشوهة إلى الاستعلاء والاستعراض الطاووسي و"الأستذة" التي يتم سترها بمصطلح "النقد".
خامسا، الواهمون: هؤلاء أصحاب أحلام يقظة يريدون وقعنتها يوتوبيًا في واقعٍ مُتخيَّل، ولذلك لا ينجزون شيئًا خارج الاستعراض، وبعض النجاحات المؤقتة، قبل أن يصطدموا بالواقع الملموس، فيعودوا إلى صناعة سيناريو جديد لأحلامٍ جديدة.
هذه بعض الركائز التي شكلت خلفيةً منهجيةً غير مرئية، تحكّمت في آلية صياغة العمل المشترك سابقًا، وأنتجت تشكيلات عقيمة بالمعنى السياسي. والمستهجن اليوم هو إصرار بعضهم على تكرار هذه التجارب نفسها، من دون إجراء أي مراجعاتٍ أو تغيير في الذهنية الثاوية في الفكر السياسي. ولا يتم إنجاز هذا النوع من التأسيس بـ"كبسة زر"، بل ببذل جهدٍ كثير، وبالتفكير، وجهاد النفس، والتدريب، والتواضع، وخصوصًا أنه يتم في وضعٍ استثنائي من مستويات الإجرام والهمجية التي تقوم بها الطغمة الحاكمة في سورية، وداعموها الإقليميون والدوليون.
تعمل هذه الذهنية على مستوى مجتمع القوى السياسية، من خلال منهجية الإصرار على التوافق، وصهر الآراء، بحيث يتعذّر تمييزها بعد الصهر؛ فيتم استثمار الوقت والجهد في البحث عن المشتركات والتوافقات، أو في تلفيقها، بوصفها ضرورةً للعمل المشترك. وفي الحقيقة، لو كان البشر، ومن ثم القوى التي تمثلهم، متجانسة ومتوافقة، لما كان للديمقراطية أي معنى، ولما كانت مفهومًا تعتد البشرية به، فالحاجة إلى الديمقراطية هي الحاجة إلى ضمان التعدّدية على مستويات الحياة كافة. ما تتطلبه المرحلة هو توحيد المسار السياسي في لحظة معينة، وهذا لا يشترط توحيد القوى، ولا يشترط اتفاقها أو تطابق مقارباتها، ولذلك نطرح تركيز العمل في كيفية بناء موقف سياسي مرحلي مشترك، يمكن أن ينتج خططا وطنية طويلة الأمد، بدلًا من التركيز في المشتركات والاتفاقات. ولا نرى في الأخيرة أولوية سياسية، على الرغم من أهميتها.
يقودنا هذا المسار إلى تصور ملامح بنية ذهنية جديدة، تؤصل لـ"أسس العمل الجماعي السليم المتجدّد"، هي الذهنية التي تجعل المتعاونين يعترفون بتمايزهم، ولا يسعون إلى صهر أنفسهم، ولكنهم ينسجمون سياسيًا من خلال الاتفاق على المسير في اتجاهٍ واحد، في لحظةٍ سياسية معينة، وهذا سيكون جوهر التعاون المرحلي بين القوى السورية. وهذا هو مُنطلق التفكير في السياسة والتنظيم، والأهم في بناء ما يمكن تسميته "المشروع السلوكي المشترك"، والذي يعمل على تسهيل مهمة السوريين في بناء عقد اجتماعي عصري، ودولة وطنية حقيقية، فالوحدة مرادفة لـ"ضمان التعددية" وفق المبدأ الديمقراطي، ومرادفة للصهر وللتجانس وفق المبدأ الشمولي الديكتاتوري، ومبدأ الطغم الحاكمة.
أولا، المنهجية الطائفية: يتم فهم الوطن، وفق هذه المنهحية الثاوية في أعماق الشخصية، بوصفه مجموعةً من الطوائف. ويقارِب أصحاب هذه المنهجية مفهومي الـ"نحن" والـ"هم" وفق منطلقاتٍ طائفيةٍ لا يستطيعون تجاوزها (وهذا في العمق ما تشير إليه كلمة "مكونات")، ومن ثم يبنون تحالفات باطنية وثيقة ضمن الجماعة الطائفية، حتى ولو لم يتقاطعوا سياسيًا معهم، وأخرى شكلية ظاهرية مع المختلف (الآخر)، حتى لو تطابقت التوجهات السياسية. ويسعى هؤلاء، في الغالب، إلى الوجود ضمن أكبر عدد ممكن من التشكيلات، غير مبالين بتناقض منطلقاتها أحيانًا.
ثانيا، المنهجية الإثنية: ما ينطبق على الطائفة ينطبق على أبناء العرق والإثنية الواحدة، ومقارباتهم الـ"نحن" والـ"هم"، فيغلب الانتماء العرقي والإثني على الانتماء السياسي، ويصبح الأشخاص (والكتل العرقية) موتورين ومتعصبين، يتذرعون بمفهوم "القومية" البريء مفهوميًا من هذا التوظيف براءةً مطلقة. ولا يرَى هؤلاء في الشخص إلا عِرقه المحدد قبل ولادته، ولا يستطيعون رؤية محمولاته الوطنية إلا شكلًا. بل يترجمون كل مقاربات "الآخر" وفق انتماء عرقي أو إثني، يرفعونه إلى مرتبة المقدس الذي لا يمكن وضعه على طاولة النقاش.
ثالثا، المنهجية الأيديولوجية: هذه نظارة تجعل صاحبها يرى الحياة والأشياء بلونها، ومهما اختلف المنظور وزاوية الرؤية، يبقى اللون بالنسبة له واحدا. تجده يبحث جاهدًا عن التغيير، لكنه لا يستطيع الفكاك من ظاهرة اللون الواحد. أكثرهم ينتمون إلى أحزاب كلاسيكية مؤدلجة، لم تتمكن من مجاراة التطور التاريخي. على الرغم من قناعتهم بضرورة التطوّر، إلا أن منهجيتهم القديمة لا تسعفهم في إنجاز ذلك.
رابعا، الذاتوية المتورّمة: ورم يصيب الذات، فتؤمن بأنها مركز الكون، والوحيدة التي تستطيع التفكير، والتحليل، والعمل في السياسة، وعلى الجميع أن يكونوا تلاميذ أو أن ينفذوا التعليمات من دون نقاش. ويسخّر هؤلاء المرضى معارفهم الظاهرية، أو تاريخهم النضالي، في تعزيز الجهل العميق، وتعزيز الأنانية والسلوك المتعالي. ذلك بسبب فهمهم البدوي للفردانية، وهو الفهم الذي يأخذ على عاتقة إتمام عملية "بدونة الحداثة". وتؤدي هذه المقاربات المشوهة إلى الاستعلاء والاستعراض الطاووسي و"الأستذة" التي يتم سترها بمصطلح "النقد".
خامسا، الواهمون: هؤلاء أصحاب أحلام يقظة يريدون وقعنتها يوتوبيًا في واقعٍ مُتخيَّل، ولذلك لا ينجزون شيئًا خارج الاستعراض، وبعض النجاحات المؤقتة، قبل أن يصطدموا بالواقع الملموس، فيعودوا إلى صناعة سيناريو جديد لأحلامٍ جديدة.
هذه بعض الركائز التي شكلت خلفيةً منهجيةً غير مرئية، تحكّمت في آلية صياغة العمل المشترك سابقًا، وأنتجت تشكيلات عقيمة بالمعنى السياسي. والمستهجن اليوم هو إصرار بعضهم على تكرار هذه التجارب نفسها، من دون إجراء أي مراجعاتٍ أو تغيير في الذهنية الثاوية في الفكر السياسي. ولا يتم إنجاز هذا النوع من التأسيس بـ"كبسة زر"، بل ببذل جهدٍ كثير، وبالتفكير، وجهاد النفس، والتدريب، والتواضع، وخصوصًا أنه يتم في وضعٍ استثنائي من مستويات الإجرام والهمجية التي تقوم بها الطغمة الحاكمة في سورية، وداعموها الإقليميون والدوليون.
تعمل هذه الذهنية على مستوى مجتمع القوى السياسية، من خلال منهجية الإصرار على التوافق، وصهر الآراء، بحيث يتعذّر تمييزها بعد الصهر؛ فيتم استثمار الوقت والجهد في البحث عن المشتركات والتوافقات، أو في تلفيقها، بوصفها ضرورةً للعمل المشترك. وفي الحقيقة، لو كان البشر، ومن ثم القوى التي تمثلهم، متجانسة ومتوافقة، لما كان للديمقراطية أي معنى، ولما كانت مفهومًا تعتد البشرية به، فالحاجة إلى الديمقراطية هي الحاجة إلى ضمان التعدّدية على مستويات الحياة كافة. ما تتطلبه المرحلة هو توحيد المسار السياسي في لحظة معينة، وهذا لا يشترط توحيد القوى، ولا يشترط اتفاقها أو تطابق مقارباتها، ولذلك نطرح تركيز العمل في كيفية بناء موقف سياسي مرحلي مشترك، يمكن أن ينتج خططا وطنية طويلة الأمد، بدلًا من التركيز في المشتركات والاتفاقات. ولا نرى في الأخيرة أولوية سياسية، على الرغم من أهميتها.
يقودنا هذا المسار إلى تصور ملامح بنية ذهنية جديدة، تؤصل لـ"أسس العمل الجماعي السليم المتجدّد"، هي الذهنية التي تجعل المتعاونين يعترفون بتمايزهم، ولا يسعون إلى صهر أنفسهم، ولكنهم ينسجمون سياسيًا من خلال الاتفاق على المسير في اتجاهٍ واحد، في لحظةٍ سياسية معينة، وهذا سيكون جوهر التعاون المرحلي بين القوى السورية. وهذا هو مُنطلق التفكير في السياسة والتنظيم، والأهم في بناء ما يمكن تسميته "المشروع السلوكي المشترك"، والذي يعمل على تسهيل مهمة السوريين في بناء عقد اجتماعي عصري، ودولة وطنية حقيقية، فالوحدة مرادفة لـ"ضمان التعددية" وفق المبدأ الديمقراطي، ومرادفة للصهر وللتجانس وفق المبدأ الشمولي الديكتاتوري، ومبدأ الطغم الحاكمة.