في بداية عصر التدوين، قام اللغويون العرب القدامى، بجمع ألفاظ اللغة العربية لفظًا لفظًا. وإذ كانوا يبدون أشد الحرص على صحّة تلك الألفاظ ونقاء منبتها، اتجهو صوب الصحراء في شبه الجزيرة العربية، حيث البدو القدامى الذين لم يختلطوا كثيرًا بأقوام "أجنبية"، وأمنوا بذلك اللحن والعجمة اللذين كانا سائدين في أطراف شبه الجزيرة. جمع اللغويون الألفاظ من الشعر القديم الجاهلي، ومن الخطب وغيرها من التراث الشفهي العربي. ويُروى في الكتب أنهم، مع مرور الوقت وبعد جمع غالبية الألفاظ، استمروا بزيارة البدو، طلبًا للمزيد، من المهمل والوحشي والغريب من الألفاظ، بل إنهم راحوا يشترونها من البدو.
تخبّر المدوّنات الأولى عن عشوائية في التدوين، فكتب "الأمالي" استمدّت اسمها من أماسي إملاء الألفاظ على النسّاخ والسامعين، وفقًا لإيقاع الحديث في المجالس. لكن، في القرن الثاني للهجرة، قُيّض للغة العربية أن تحظى بعالمٍ لغوي فريدٍ متفرّد، استطاع تبويب الألفاظ وتصنيفها وترتيبها بطريقة مخصوصة، ضمن مؤلّف يتسم بمنهجية علمية أدنى إلى الرياضيات، اللغوي الفريد هو الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أوّل معجم في اللغة العربية: العين.
والعين مرآة القلب كما يُقال. وكان لفظ "القلب" كما يخبّر الروائي وأستاذ الحاسوب حبيب سروري، مصدر الإدراك قديمًا، قبل أن يشتّق لفظ العقل بمعناه الاصطلاحي من لفظ العقال، ويغدو حاملًا لمعنى الفهم والإدراك.
تولد الألفاظ وتعيش وتتطور وتنتابها التغييرات فتحمل معاني مختلفة، وتنتقل من المستوى الحسي إلى الاستعمال وصولًا إلى الاصطلاح، وتعكس في مسارها هذا، تاريخ الفكر للغة ما، وتبطن التقدّم والتأخر في التفكير النقدي وإعمال العقل.
وفي زمن مضى كانت "الصناعة المعجمية" مزدهرة لدى العرب بطريقة غير مسبوقة، وتخبّر كتب التراث عن معاجم متنوعة منها المبوّب ومنها المجنّس، تؤلّف بمجموعها صرحًا معجميًا لا نظير له، يمثّل جهود مئات اللغويين الذين حرصوا على لغة الضاد، إذ كانوا مدركين أن اللغة مرآة الفكر كما العين مرآة القلب.
وليس تعبير "اللغة مرآة الفكر" من قبيل البلاغة أو الشعار، بل لعلّه المنطلق الخفّي لمشروع نهضوي طال انتظاره؛ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.
وجليّ أن الربط بين اللغة والفكر، الذي يبدو أمرًا أساسًا في هذا المشروع، يفصح عن وعي يتجاوز مجرد إثبات ألفاظ اللغة العربية، ورصد تاريخ ظهورها الأوّل وتحولاتها والتطوّر والتغير في معانيها على مرّ القرون، إلى ما هو أوسع وأعلى وأبعد؛ التفكير النقدي وإعادة النظر في مسلّمات وافتراضات قامت على التخمين لا على اليقين، الأمر الذي من شأنه كشف صورة جديدة عن أنفسنا وتاريخنا وتفكيرنا.
وكما يقول المتنبي: "على قدر أهل العزمِ"، فإن الحوار مع ضيف ملحق الثقافة، الدكتور عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي للمشروع، يبيّن بشكل لا لبس فيه، ضخامة هذا المشروع وأهميته، وكذلك صعوباته وتعقيداته، إذ يُظهر مشكلات لا حصر لها تتعلّق بطبيعة تراثنا اللغوي من جهة، و"وضع" اللغة العربية من ناحية المعالجة الحاسوبية من جهة أخرى.
بيد أن فريق المشروع، مصممٌ على التصدّي لهذه المشكلات جميعها. هي مشكلات عمرها من عمر اللغة العربية، وتعكس الفوات التاريخي القائم بيننا وبين الأمم التي سبقتنا، لا في إنجاز معاجم لغاتها التاريخية فحسب، بل سبقتنا كما هو معروف ومعلوم، في التقدّم والإنجازات العلمية والفكر.
والفكر "على قدر أهل العزم"، إذ لا يخفى أن الدكتور عزمي بشارة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يدعم المشروع بكل قوّة وتفانٍ، فهذا "مشروع أمة".
وقد تزامن الحوار مع الدكتور البوشيخي، مع الأخبار السيئة الأدنى إلى الكابوس المستمّر، عن تهديم داعش للآثار في بلاد الرافدين، وعن حرق المكتبة المركزية في الموصل، فقفزت المقارنة من تلقائها ومن ذاتها؛ بين البناء والهدم، بين العمل والقتل (بأنواعه؛ الحقيقية والمعنوية والرمزية)، بين التفكير والتكفير. بين من يرى في الإنجاز صورةً لحضارته وهوّيته وفكره، ومن يرى في التحطيم والتهديم والجريمة، صورة لوجوده. بين من يفكّر في ما سيتركه من أثر طيب وعمل صالح للجيل من بعده، وبين من يحارب الماضي ويمحوه، ويقتل الحاضر ويخنقه، ويمنع المستقبل ويحاصر الأمل.
قفزت المقارنة من تلقائها؛ وعفو الخاطر رنّ شطر المتنبي "على قدر أهل العزم".
تخبّر المدوّنات الأولى عن عشوائية في التدوين، فكتب "الأمالي" استمدّت اسمها من أماسي إملاء الألفاظ على النسّاخ والسامعين، وفقًا لإيقاع الحديث في المجالس. لكن، في القرن الثاني للهجرة، قُيّض للغة العربية أن تحظى بعالمٍ لغوي فريدٍ متفرّد، استطاع تبويب الألفاظ وتصنيفها وترتيبها بطريقة مخصوصة، ضمن مؤلّف يتسم بمنهجية علمية أدنى إلى الرياضيات، اللغوي الفريد هو الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أوّل معجم في اللغة العربية: العين.
والعين مرآة القلب كما يُقال. وكان لفظ "القلب" كما يخبّر الروائي وأستاذ الحاسوب حبيب سروري، مصدر الإدراك قديمًا، قبل أن يشتّق لفظ العقل بمعناه الاصطلاحي من لفظ العقال، ويغدو حاملًا لمعنى الفهم والإدراك.
تولد الألفاظ وتعيش وتتطور وتنتابها التغييرات فتحمل معاني مختلفة، وتنتقل من المستوى الحسي إلى الاستعمال وصولًا إلى الاصطلاح، وتعكس في مسارها هذا، تاريخ الفكر للغة ما، وتبطن التقدّم والتأخر في التفكير النقدي وإعمال العقل.
وفي زمن مضى كانت "الصناعة المعجمية" مزدهرة لدى العرب بطريقة غير مسبوقة، وتخبّر كتب التراث عن معاجم متنوعة منها المبوّب ومنها المجنّس، تؤلّف بمجموعها صرحًا معجميًا لا نظير له، يمثّل جهود مئات اللغويين الذين حرصوا على لغة الضاد، إذ كانوا مدركين أن اللغة مرآة الفكر كما العين مرآة القلب.
وليس تعبير "اللغة مرآة الفكر" من قبيل البلاغة أو الشعار، بل لعلّه المنطلق الخفّي لمشروع نهضوي طال انتظاره؛ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.
وجليّ أن الربط بين اللغة والفكر، الذي يبدو أمرًا أساسًا في هذا المشروع، يفصح عن وعي يتجاوز مجرد إثبات ألفاظ اللغة العربية، ورصد تاريخ ظهورها الأوّل وتحولاتها والتطوّر والتغير في معانيها على مرّ القرون، إلى ما هو أوسع وأعلى وأبعد؛ التفكير النقدي وإعادة النظر في مسلّمات وافتراضات قامت على التخمين لا على اليقين، الأمر الذي من شأنه كشف صورة جديدة عن أنفسنا وتاريخنا وتفكيرنا.
وكما يقول المتنبي: "على قدر أهل العزمِ"، فإن الحوار مع ضيف ملحق الثقافة، الدكتور عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي للمشروع، يبيّن بشكل لا لبس فيه، ضخامة هذا المشروع وأهميته، وكذلك صعوباته وتعقيداته، إذ يُظهر مشكلات لا حصر لها تتعلّق بطبيعة تراثنا اللغوي من جهة، و"وضع" اللغة العربية من ناحية المعالجة الحاسوبية من جهة أخرى.
بيد أن فريق المشروع، مصممٌ على التصدّي لهذه المشكلات جميعها. هي مشكلات عمرها من عمر اللغة العربية، وتعكس الفوات التاريخي القائم بيننا وبين الأمم التي سبقتنا، لا في إنجاز معاجم لغاتها التاريخية فحسب، بل سبقتنا كما هو معروف ومعلوم، في التقدّم والإنجازات العلمية والفكر.
والفكر "على قدر أهل العزم"، إذ لا يخفى أن الدكتور عزمي بشارة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يدعم المشروع بكل قوّة وتفانٍ، فهذا "مشروع أمة".
وقد تزامن الحوار مع الدكتور البوشيخي، مع الأخبار السيئة الأدنى إلى الكابوس المستمّر، عن تهديم داعش للآثار في بلاد الرافدين، وعن حرق المكتبة المركزية في الموصل، فقفزت المقارنة من تلقائها ومن ذاتها؛ بين البناء والهدم، بين العمل والقتل (بأنواعه؛ الحقيقية والمعنوية والرمزية)، بين التفكير والتكفير. بين من يرى في الإنجاز صورةً لحضارته وهوّيته وفكره، ومن يرى في التحطيم والتهديم والجريمة، صورة لوجوده. بين من يفكّر في ما سيتركه من أثر طيب وعمل صالح للجيل من بعده، وبين من يحارب الماضي ويمحوه، ويقتل الحاضر ويخنقه، ويمنع المستقبل ويحاصر الأمل.
قفزت المقارنة من تلقائها؛ وعفو الخاطر رنّ شطر المتنبي "على قدر أهل العزم".