08 نوفمبر 2024
المغرب.. ألغـام في الطريق إلى 2016
استأنف العلمانيون والإسلاميون في المغرب مواجهتهم الإيديولوجية على خلفية التوصية التي رفعها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أخيراً، إلى الحكومة، يطالبها بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وبإقرار مساواة حقيقية بينها وبين الرجل. وكان صدور هذه التوصية يمكن أن يمر من دون ضجيج، لولا أنها تطرقت لقضية في غاية الحساسية، تتعلق بالمساواة في الإرث بين الجنسين، الأمر الذي أثار غضب الأوساط الإسلامية التي اعتبرتها مساساً بنص قطعي، لا مجال فيه للاجتهاد، في حين اعتبرها العلمانيون خطوة مهمة، نحو إنصاف المرأة المغربية والقضاء على جميع أشكال التمييز الموجودة ضدها.
ومن المؤكد أن فتح نقاش عمومي بشأن هذه القضية هو في غاية الأهمية، ويفتح أمام المجتمع دروباً لا يمكن الاستهانة بها، في ما يخص تدبير خلافاته، والبحث لها عن حلول ولو مؤقتة، كما يجب ألّا ننسى أن هذا النقاش غير مسبوق في العالم العربي. وهذا في حد ذاته إيجابي وحيوي، غير أن ذلك يجب أن يكون ضمن أفق واسع، يستوعب طبيعة اللحظة الانتقالية، وما تنتجه من إكراهات وأسئلة متباينة. لذلك، لا يُشك في أن أعضاء المجلس يدركون صعوبة، إن لم نقل استحالة تمرير هذه التوصية، لأسباب سياسية وثقافية واجتماعية معروفة، فالسلطة لا يمكن أن تجيز أمراً كهذا، لسببين على الأقل، أولهما أنها تستند إلى مشروعية دينية تقليدية، تجد تعبيرها الأساسي في مؤسسة "إمارة المؤمنين" التي تخول الملكَ الإشراف على الحقل الديني وتدبيره. وثانياً، سيؤدي إقرار هذه التوصية إلى حالة استقطاب غير مسبوقة داخل المجتمع، في ظل وجود قطاع محافظ يشكل التقليد عصب تفكيره ووعيه الاجتماعي ونظرته للعالم، وهو مستعد للذهاب بعيداً في الدفاع عما يعتبره تطاولاً على مقدساته الدينية، ما يشكل خطوة غير محسوبة، قد تهدد السلم الاجتماعي والأهلي، وأكيد أن أمراً كهذا لن تسمح به السلطة تحت أي ظرف.
بيد أن ما يثير الانتباه في توصية المجلس توقيتها، لماذا الآن، أسابيع قليلة بعد انتهاء المسلسل
الانتخابي الذي بدأ في الرابع من سبتمبر/ أيلول الماضي؟ ثم ألا يوجد سياق آخر للحديث عن المساواة في الإرث بين الجنسين؟ ألا يمكن مقاربة الأمر، عبر مداخل حقوقية أخرى أكثر نجاعة، حتى وإن تطلب ذلك بعض الوقت. وبالتالي، تجنيب المجتمع حرباً إيديولوجية وفكرية، ستكون خسائرها أكبر من المكاسب التي قد يجنيها بعضهم؟ أليس في وسع المجلس إصدار توصيات تطالب السلطة بالعمل على احترام الحق في التفكير الحر الذي يفتح الباب أمام اجتهادات وسجالات نظرية وفكرية، يمكن أن تساهم في تجسير الهوة بين النص والواقع؟ ألا يرى المجلس أن وضعية التعليم في المغرب مسؤولة عن الجهل والتخلف الفكري والثقافي الذي يغذّي النظرة الدونية للمرأة، ويحرمها من حقوقها؟ لم لا يتقدم بتوصية تدافع عن حق المغاربة في تعليم جيد ومتفاعل مع العصر، يمكن أن يُحدث، مع الوقت، نقلة سوسيو ثقافية نوعية، ويساهم في العبور بالأجيال المقبلة إلى ضفاف الحداثة والمدنية والديمقراطية؟ وقبل ذلك كله، وما دمنا نتحدث عن المساواة، أليس من حق المغاربة، أيضاً، أن يكونوا متساوين بالفعل أمام القانون دونما تمييز؟
في ضوء ذلك كله، تبدو توصية المجلس غير بعيدة عن السياق الذي أنتجته المحطة الانتخابية الأخيرة، بظهور معطيات مقلقة بالنسب للدولة العميقة، وأذرعها المتغلغلة في السياسة والاقتصاد والإعلام والشارع، أهمها وأكثرها دلالةً اكتساحُ حزب العدالة والتنمية الإسلامي المدنَ والحواضرَ الكبرى، ونجاحه في التواصل مع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، وإقناعها بخطابه، ما يعني أن الإسلام السياسي المعتدل في المغرب يعرف متغيرات سوسيولوجية مهمة، تدفع به إلى أن يصبح أبرز تعبير سياسي عن هذه الطبقة وتطلعاتها في السنوات المقبلة. لذلك، قد لا يكون من المبالغة القول إن توصية المجلس تندرج في محاولة لجر الإسلاميين إلى نزال إيديولوجي جديد قبل انتخابات 2016؛ يستنزف طاقتهم، ويحد من شعبيتهم المتصاعدة داخل المجتمع الذي لا تخفي بعض شرائحه تأييدها إقرار المساواة في الإرث.
ويبدو أن مضمون التوصية لم يترك لحزب العدالة والتنمية هامشاً للمناورة، الأمر الذي دفعه إلى إصدار بيانٍ، اعتبر ما ورد فيها خرقاً سافراً لأحكام الدستور، وتجاوزاً لمؤسسة إمارة المؤمنين، ولم يُفوّت رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، الفرصة، حيث طالب، في حديث تلفزيوني، رئيسَ المجلس، بالاعتذار للمغاربة وسحب التوصية التي اعتبرها صبّاً للزيت على النار وإثارةً للفتنة. وبالطبع، لم يتوقف الأمر هنا، إذ سرعان ما أصدر حزب الأصالة والمعاصرة، الخصم اللدود للحزب الإسلامي، بلاغاً رحّب فيه بتوصية المجلس بصفته مؤسسة دستورية، من حقها إصدار كل ما من شأنه أن يستدعي نقاشاً هادئاً وموضوعياً بعيداً عن المواقف المتشنجة التي تقف ضد الاختلاف. ومع اصطفاف الحركة الحقوقية والنسائية، وتنظيمات ليبرالية ويسارية أخرى، إلى جانب التوصية، أخذ النقاش وجهة أخرى نحو مزيد من الاستقطاب الذي قد ينهيه، في أي لحظة، تدخل الملك، على اعتبار أن الدستور يخوّله صلاحيات دينية واسعة.
يدرك الإسلاميون أن شبهة السياسة تحوم حول النقاش الدائر حالياً حول مسألة الإرث، ما يجعلهم على قناعةٍ بأن الطريق إلى الانتخابات التشريعية للسنة المقبلة لن يكون سالكاً أمامهم بأي حال. ولذلك، فإن لغم المساواة في الإرث هذا ستليه ألغام أخرى، سيحددها السياقُ ورؤيةُ الفاعلين والخيارات المتاحة أمامهم.
ومن المؤكد أن فتح نقاش عمومي بشأن هذه القضية هو في غاية الأهمية، ويفتح أمام المجتمع دروباً لا يمكن الاستهانة بها، في ما يخص تدبير خلافاته، والبحث لها عن حلول ولو مؤقتة، كما يجب ألّا ننسى أن هذا النقاش غير مسبوق في العالم العربي. وهذا في حد ذاته إيجابي وحيوي، غير أن ذلك يجب أن يكون ضمن أفق واسع، يستوعب طبيعة اللحظة الانتقالية، وما تنتجه من إكراهات وأسئلة متباينة. لذلك، لا يُشك في أن أعضاء المجلس يدركون صعوبة، إن لم نقل استحالة تمرير هذه التوصية، لأسباب سياسية وثقافية واجتماعية معروفة، فالسلطة لا يمكن أن تجيز أمراً كهذا، لسببين على الأقل، أولهما أنها تستند إلى مشروعية دينية تقليدية، تجد تعبيرها الأساسي في مؤسسة "إمارة المؤمنين" التي تخول الملكَ الإشراف على الحقل الديني وتدبيره. وثانياً، سيؤدي إقرار هذه التوصية إلى حالة استقطاب غير مسبوقة داخل المجتمع، في ظل وجود قطاع محافظ يشكل التقليد عصب تفكيره ووعيه الاجتماعي ونظرته للعالم، وهو مستعد للذهاب بعيداً في الدفاع عما يعتبره تطاولاً على مقدساته الدينية، ما يشكل خطوة غير محسوبة، قد تهدد السلم الاجتماعي والأهلي، وأكيد أن أمراً كهذا لن تسمح به السلطة تحت أي ظرف.
بيد أن ما يثير الانتباه في توصية المجلس توقيتها، لماذا الآن، أسابيع قليلة بعد انتهاء المسلسل
في ضوء ذلك كله، تبدو توصية المجلس غير بعيدة عن السياق الذي أنتجته المحطة الانتخابية الأخيرة، بظهور معطيات مقلقة بالنسب للدولة العميقة، وأذرعها المتغلغلة في السياسة والاقتصاد والإعلام والشارع، أهمها وأكثرها دلالةً اكتساحُ حزب العدالة والتنمية الإسلامي المدنَ والحواضرَ الكبرى، ونجاحه في التواصل مع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، وإقناعها بخطابه، ما يعني أن الإسلام السياسي المعتدل في المغرب يعرف متغيرات سوسيولوجية مهمة، تدفع به إلى أن يصبح أبرز تعبير سياسي عن هذه الطبقة وتطلعاتها في السنوات المقبلة. لذلك، قد لا يكون من المبالغة القول إن توصية المجلس تندرج في محاولة لجر الإسلاميين إلى نزال إيديولوجي جديد قبل انتخابات 2016؛ يستنزف طاقتهم، ويحد من شعبيتهم المتصاعدة داخل المجتمع الذي لا تخفي بعض شرائحه تأييدها إقرار المساواة في الإرث.
ويبدو أن مضمون التوصية لم يترك لحزب العدالة والتنمية هامشاً للمناورة، الأمر الذي دفعه إلى إصدار بيانٍ، اعتبر ما ورد فيها خرقاً سافراً لأحكام الدستور، وتجاوزاً لمؤسسة إمارة المؤمنين، ولم يُفوّت رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، الفرصة، حيث طالب، في حديث تلفزيوني، رئيسَ المجلس، بالاعتذار للمغاربة وسحب التوصية التي اعتبرها صبّاً للزيت على النار وإثارةً للفتنة. وبالطبع، لم يتوقف الأمر هنا، إذ سرعان ما أصدر حزب الأصالة والمعاصرة، الخصم اللدود للحزب الإسلامي، بلاغاً رحّب فيه بتوصية المجلس بصفته مؤسسة دستورية، من حقها إصدار كل ما من شأنه أن يستدعي نقاشاً هادئاً وموضوعياً بعيداً عن المواقف المتشنجة التي تقف ضد الاختلاف. ومع اصطفاف الحركة الحقوقية والنسائية، وتنظيمات ليبرالية ويسارية أخرى، إلى جانب التوصية، أخذ النقاش وجهة أخرى نحو مزيد من الاستقطاب الذي قد ينهيه، في أي لحظة، تدخل الملك، على اعتبار أن الدستور يخوّله صلاحيات دينية واسعة.
يدرك الإسلاميون أن شبهة السياسة تحوم حول النقاش الدائر حالياً حول مسألة الإرث، ما يجعلهم على قناعةٍ بأن الطريق إلى الانتخابات التشريعية للسنة المقبلة لن يكون سالكاً أمامهم بأي حال. ولذلك، فإن لغم المساواة في الإرث هذا ستليه ألغام أخرى، سيحددها السياقُ ورؤيةُ الفاعلين والخيارات المتاحة أمامهم.