04 نوفمبر 2024
النخب السياسية التونسية بين التوافق والاستقطاب
يُسارع متابعون عديدون للشأن التونسي بتمجيد حالة التوافق السياسي التي شكّلت استثناءً، بل يعتقد بعض منهم أن ذلك التوافق هو الذي أملى ما عاد يعرف بـ "الاستثناء التونسي"، أي تلك القدرة العجيبة للتونسيين على طي خلافاتهم السياسية، والالتقاء حول المشترك الوطني، غير أن هؤلاء يتجاهلون النصف الآخر من الحقيقة أيضاً. لذلك، علينا أن ننسب الأمر إلى حد كبير، فما وراء شجرة الوفاق تكمن أكمة الخلافات الحادة التي تهدّد، أكثر من أي وقت مضى، مسار الانتقال الديمقرطي، خصوصا إذا ما أخذنا الوضع الإقليمي ومستجداته بالاعتبار.
ما زالت حالة الاستقطاب الحاد مرتفعة في اعتقادنا، وهي تقسّم النخب السياسية إلى شطرين متناقضين، بل يرتفع منسوب ذلك بشكل شامل وغير مسبوق، فحالة التوافق لم تشمل سوى حزبين، هما النهضة ونداء تونس اللذان تمكّنا منذ لقاء باريس سنة 2013 بين الشيخين، راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، من إطفاء الحرائق التي توزّعت على أكثر من منطقة اشتباك، حتى كادت البلاد أن تدخل في حرب أهليةٍ، خصوصاً بعد الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد. استطاعت "النهضة" أن تغنم من ذلك الكثير، لعل أهمهما فكّ الطوق السياسي عنها، وخروجها الآمن من السلطة، وقد تحرّش بعضهم بها قتلاً أو سجناً، وهي التي قدّرت أن مصلحة البلاد، وأساساً الحفاظ على الانتقال الديموقراطي أعلى من مصلحتها الحزبية.
ولكن، خارج الاتفاق الحاصل بين الشيخين الذي يمر بدوره، من حين إلى آخر، بمنعرجاتٍ خطيرةٍ لا شيء يرسخ ثقافة التوافق ويحوله الى حالة دائمة، إذ يبدو أن ذلك التوافق لم يرض أنصار الحزبين، بل تصدر أحياناً عن قياداتهما تحرّشات متبادلة، تتناقض تماماً مع هذه الروح التوافقية. دعت بعض القيادات النسوية من "نداء تونس"، مثلاً، إلى فكّ تحالف الحكم مع "النهضة" والزج بعديد من قياداتهم في السجن.
ترى قيادات سياسية عديدة، وهي من الصف الأول في هذا الحزب أحياناً، أن "النهضة" ليست
مجرد خصم، بل عدواً سياسياً، وتعتقد أن التحالف الحكومي معها كان خطيئةً عظمى، ارتكبها السبسي. وهناك من يتحدث أن "نداء تونس" خان القواعد التي انتخبته، حين انقلب على شعاراته الانتخابية التي على ضوئها صوت له الناخبون، مثل أن "النهضة" و"نداء تونس" خطان متوازيان لا يلتقيان، وأن النمط المجتمعي الذي ينادي به "النداء" يقوم على أنقاض مشروع النهضة.
تشكلت، خلال نهاية الأسبوع الحالي، من ستة أحزاب، جبهة سياسية انتخابية، سمّاها أصحابها "الجبهة الديموقراطية"، ضمّت عموما غاضبين إما على رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، أو على رئيس حكومة الوحدة الوطنية، يوسف الشاهد، وهي متكونة من حزب الاتحاد الوطني الحر وأحزاب صغرى، منها حزب الثوابت ذو التوجهات القومية، والحزب الاشتراكي ذو التوجهات اليسارية. وتستعيد الجبهة مقولات الاستقطاب الحاد، إذ تعرّف نفسها على أساس أنها جبهة القيم "الديموقراطية الحقيقية والحداثة".. إلخ. كما عبرت عن تحفظاتٍ على التوافق الذي أسس له حزبا النهضة ونداء تونس، كما أشرنا. وبهذا الخطاب، تغذّي حالة الاستقطاب الحاد الذي افتتحته قبلها الجبهة الشعبية ذات الميول اليسارية القصوى، وطيف مهم من الجمعيات المدنية والإعلام الذي استعاد هواية النفخ في ذلك السعير، بإلقاء مزيد من حطب الاتهامات المجانية أن "النهضة" كانت وراء تشجيع تسفير الشباب إلى جبهات القتال السورية، محملين إياها المسؤولية القانونية، ولن يهدأ بال هؤلاء إلا إذا تورّطت "النهضة" قضائياً في ذلك. وهي الحملة التي تضاف إلى سابقاتها، خصوصاً المتعلقة باغتيال الشهيدين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ففي وقت يمضي فيه القضاء في محاكمة من تورّطوا مباشرة أو بصفة غير مباشرة في قتلهما، ما زال بعض هؤلاء يصرّ على اتهام "النهضة" بتلك الجرائم، على الرغم من أن القرائن المتوفرة تنفي ذلك جملة وتفصيلاً.
وتثبت صفحات التواصل الاجتماعي، وتصريحات قياداتٍ حزبيةٍ عديدة، مرة أخرى، أن التوافق
السياسي ليس إلا قشرة سطحية، أو هو بالأحرى ميثاق أخلاقي بين الشيخين، ينص أساسا على وقف الأعمال العدائية المتبادلة، حتى كاد يكون هدنة مؤقتة. وقد فتح سقوط حلب في قبضة النظام السوي شهية كثيرين من خصوم "النهضة" فهذا "زمنهم"، ويزين لهم فرصاً مواتيةً لاجتثاثها، خصوصا وأن معظم المؤشرات تشي بذلك، بل تحفّزهم، فانكفاء الدور التركي في المنطقة، بعد انكسار الثورة في سورية ونصف انتصار لبشار، فضلا على انغماس السعودية في حربٍ طويلة في اليمن، كادت تتحول حرباً منسية، وسعياً أميركياً الحثيث إلى تصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، كلها حوافز إقليمية تدفع خصوم "النهضة" في الداخل أيضاً لتصنيفها عدواً لدودا، بل بدأ بعضهم يؤول الدستور أنه يمنع الأحزاب الدينية على غرار "النهضة". قد لا نصل إلى هذا الحد. ولكن، تبدو إمكانية تعرّض الحركة إلى حملةٍ شرسةٍ سياسياً، وهي التي يستهدفها يومياً قصف إعلامي يندر أن تعرّض له حزب تونسي من داخل الحكم أو خارجه، غير مستبعد، ما يجعلها خصما للجميع، خصوصاً وأن البلاد بدأت تستعد لانتخابات محلية مهمة ستكون محكّاً لمعرفة الأحجام الانتخابية للأحزاب، بعد ثلاث سنوات من فوز حزب نداء تونس في الانتخابات التشريعية في 2014. يتأكد الجميع أن "النهضة" ستكون أكبر مستفيد من مناخ التوافق، ذلك حتى على هشاشته. لذلك، يسعى بعضهم إلى نقضه، حتى ولو كان ذلك تخريبا للبلاد والانتقال الديموقراطي برمته.
ما زالت حالة الاستقطاب الحاد مرتفعة في اعتقادنا، وهي تقسّم النخب السياسية إلى شطرين متناقضين، بل يرتفع منسوب ذلك بشكل شامل وغير مسبوق، فحالة التوافق لم تشمل سوى حزبين، هما النهضة ونداء تونس اللذان تمكّنا منذ لقاء باريس سنة 2013 بين الشيخين، راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، من إطفاء الحرائق التي توزّعت على أكثر من منطقة اشتباك، حتى كادت البلاد أن تدخل في حرب أهليةٍ، خصوصاً بعد الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد. استطاعت "النهضة" أن تغنم من ذلك الكثير، لعل أهمهما فكّ الطوق السياسي عنها، وخروجها الآمن من السلطة، وقد تحرّش بعضهم بها قتلاً أو سجناً، وهي التي قدّرت أن مصلحة البلاد، وأساساً الحفاظ على الانتقال الديموقراطي أعلى من مصلحتها الحزبية.
ولكن، خارج الاتفاق الحاصل بين الشيخين الذي يمر بدوره، من حين إلى آخر، بمنعرجاتٍ خطيرةٍ لا شيء يرسخ ثقافة التوافق ويحوله الى حالة دائمة، إذ يبدو أن ذلك التوافق لم يرض أنصار الحزبين، بل تصدر أحياناً عن قياداتهما تحرّشات متبادلة، تتناقض تماماً مع هذه الروح التوافقية. دعت بعض القيادات النسوية من "نداء تونس"، مثلاً، إلى فكّ تحالف الحكم مع "النهضة" والزج بعديد من قياداتهم في السجن.
ترى قيادات سياسية عديدة، وهي من الصف الأول في هذا الحزب أحياناً، أن "النهضة" ليست
تشكلت، خلال نهاية الأسبوع الحالي، من ستة أحزاب، جبهة سياسية انتخابية، سمّاها أصحابها "الجبهة الديموقراطية"، ضمّت عموما غاضبين إما على رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، أو على رئيس حكومة الوحدة الوطنية، يوسف الشاهد، وهي متكونة من حزب الاتحاد الوطني الحر وأحزاب صغرى، منها حزب الثوابت ذو التوجهات القومية، والحزب الاشتراكي ذو التوجهات اليسارية. وتستعيد الجبهة مقولات الاستقطاب الحاد، إذ تعرّف نفسها على أساس أنها جبهة القيم "الديموقراطية الحقيقية والحداثة".. إلخ. كما عبرت عن تحفظاتٍ على التوافق الذي أسس له حزبا النهضة ونداء تونس، كما أشرنا. وبهذا الخطاب، تغذّي حالة الاستقطاب الحاد الذي افتتحته قبلها الجبهة الشعبية ذات الميول اليسارية القصوى، وطيف مهم من الجمعيات المدنية والإعلام الذي استعاد هواية النفخ في ذلك السعير، بإلقاء مزيد من حطب الاتهامات المجانية أن "النهضة" كانت وراء تشجيع تسفير الشباب إلى جبهات القتال السورية، محملين إياها المسؤولية القانونية، ولن يهدأ بال هؤلاء إلا إذا تورّطت "النهضة" قضائياً في ذلك. وهي الحملة التي تضاف إلى سابقاتها، خصوصاً المتعلقة باغتيال الشهيدين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ففي وقت يمضي فيه القضاء في محاكمة من تورّطوا مباشرة أو بصفة غير مباشرة في قتلهما، ما زال بعض هؤلاء يصرّ على اتهام "النهضة" بتلك الجرائم، على الرغم من أن القرائن المتوفرة تنفي ذلك جملة وتفصيلاً.
وتثبت صفحات التواصل الاجتماعي، وتصريحات قياداتٍ حزبيةٍ عديدة، مرة أخرى، أن التوافق