04 نوفمبر 2024
النزعات الفرنكفونية في تونس
منذ الثورة التونسية، وعلى خلاف انتظارات نخبٍ عديدة، تنامت نزعات فرنكفونية لافتة للانتباه تنكر على تونس انتماءها إلى حضنها العربي، وعلى الرغم مما أقرّه دستور الثورة، في فصله الأول، من عروبة تونس، فإن الأمر يذهب في اتجاه مناقض لهذه الروح. وإذا كان الجغرافي الفرنسي، أونيزيم ركلوس، قد عرف الفرنكفونية، في أواخر القرن التاسع عشر، على أساس تلك الرقعة الجغرافية التي يتكلم سكانها اللغة الفرنسية، فإنها لم تعد تفيد حالياً ذلك الأمر، فهي، في اعتقادي، تعني تلك النزعة التي ترى في انتماء تونس إلى فضائها العربي، بالمعنى الثقافي والحضاري، مذلة، وتنتشر هذه النزعة في أوساط ثقافية وسياسية عديدة في المغرب العربي عامة، وإن كان ذلك بدرجاتٍ متفاوتةٍ، فالأمر هنا لا يرد، كما أشرنا سابقا، إلى مجرد استعمال للغة الفرنسية، سواء في لغة التخاطب اليومي أو العلمي، فذلك أمر مطلوب، ما دامت حذاقة معرفة اللغات، أو استعمالها، تثري كفاءاتنا التواصلية، وتغني معارفنا ومهاراتنا، وحتى رؤانا. ولكن تصر هذه النزعة على سلخ البلاد، وجرها من محيطها، وإلحاقها، في تعسف سافر، بالتاريخ والجغرافيا الفرنسيين تحديداً. يبحث هؤلاء عن مبرّرات لبناء شرعيةٍ لهذا، فيجدونه نتفاً متناثراً لا تستقيم، ولا تقدم أطروحة صلبة. ومع ذلك، يلوون عنق الحقيقة. كما يبحث هؤلاء أيضا عن مبرّرات راهنة لهذا الشعور، فيصرون على أن كل مصائب تونس التاريخية، وصولا إلى حتى ما بعد بالثورة، متأتية من "العروبة"، لغة وأمواجاً بشرية قادمة منذ الفتوحات التي يصرّون على نعتها بالحملات الاستعمارية، وصولاً إلى التحالفات والمحاور الإقليمية الراهنة.
لا شك أن صعود حركة النهضة (الإسلام السياسي عموماً)، وحالة الاستقطاب الحاد بين النخب السياسية التونسية، دفعا بهذه النزعة التي عرفتها تونس منذ الاستعمار وحتى خلال بناء الدولة الوطنية إلى بلوغها ذروتها وشراستها، خصوصا وقد التحقت بهؤلاء الفرنكفونيين فئة جديدة،
وإن تعرّب لسانها، ولكنها أوغلت في الانسلاخ، وازدراء عروبة البلاد، منها فنانون وإعلاميون ومثقفون، ينظر إليهم "الفرنكفونيون" الصحاح القحاح طابور احتياط، على شاكلة فيالق الجيش الفرنسي، المتكون من الأفارقة الدين حاربوا بضراوة في أثناء الحروب الكونية التي خاضتها فرنسا، وانضمت، أخيراً، إلى هذا الجيش الفرنكفوني، جمعيات مدافعة عن الأقليات العرقية واللغوية التي تحصنت بالثقافة الفرنسية ملاذ نجاة، كما توهموا، إذ يذهب بعضهم إلى اعتبار البلاد مستعمرة عربية، فيكتبون أدبياتهم بالفرنسية، أو في أفضل الحالات باللهجة المحلية التي ينادي بعضهم أن تكون لغة رسمية لهذه البلاد.
كانت اللغة المستعملة في وسائل الإعلام العمومية هي العربية، أو أحيانا اللهجة التونسية المهذبة التي شهد لها عميد الأدب العربي طه حسين بأنها، في صفائها وسلامتها، أقرب اللهجات إلى اللغة العربية. ولكن، يبدو حاليا أن هذه اللهجة، من خلال التدمير الممنهج والذي تعرضت له، غدت وضيعة، بما حشر فيها من غريب اللفظ وأوضعه، وظل الإشهار من خلال تخليق هذه اللهجة الغريبة من مفرداتٍ فرنسية مقاولاً متميزاً في تدمير اللغة العربية، فضلا عن مشاعر الامتهان لأهلها وأصولها وقواعدها. لم يعد غريباً أن تستمع إلى مذيعي الإعلام العمومي ومنشطيه يستهزئون باللغة العربية، أما اعتداؤهم السافر، فتلك بضاعة شريفة، يتنافسون على عرضها على مسامعنا.
تتخذ هذه النزعة الفرنكفونية من مجال الثقافة والتعليم والسياسة متاريسها وحصونها الأكثر مناعةً، ولقد استطاعت أن تشكل لوبيات وشبكات من المصالح، وحتى أحاسيس الانتماء الشعوري، ورأينا أيضا أن أصحاب هذه النزعة طوروا من استراتجياتهم، بل استغلوا أخطاء حدثت مع الحكومات المتعاقبة لتملك ما كان مهملاً في ثقافتهم أصلاً، فهم دعاة "الإسلام الشعبي التونسي الأصيل"، وقد حاربوه حينا من الدهر، وهم أيضا حماة أولياء الله الصالحين وزوار أضرحتهم وزواياهم، فضلا على اللباس التقليدي التونسي. ولقد طوروا وجددوا استراتيجياتهم، حينما استحوذوا على الأصالة ونزعوها كالعادة من سياقها العربي العام، وألحقوها بتلك النزعة، يقدم هؤلاء خلطة غريبة من وصفات التراث والفرنكفونية معاً، حتى يبدون كأنهم هوية البلاد وجوهرها الأصلي.
لا تمثل الفرنكفونية، كما ذكرنا سابقا، مجرد ولع ثقافي، أو فكري، بمنجزات الحضارة
الفرنسية، وهي عديدة، ولا يمكن ألبتة نكرانها، لكنها تتخذ في تونس بشكل خاص بعداً سياسياً، لا يمكن إغفاله، فأصحاب هذا "المعتقد" يختارون مثلا النسخة الفرنسية من العلمانية، ويطمسون الأشكال الأخرى منها، على غرار العلمانية البريطانية أو الأميركية، بل يرونها نسخاً مشوهة، كما أنهم طالبوا، في مراتٍ عديدة، من فرنسا الرسمية التدخل لنصرتهم في معارك سياسية تونسية خالصة، أهمها اعتصام الرحيل ومعركة الدستور وغيره، ما أحرج السلطات الفرنسية ذاتها. يقدم هؤلاء الفرنكفونيون التونسيون، أحياناً، أنفسهم على أساس أنهم حراس المعبد الأكثر وفاءً، حتى من الفرنسيين أنفسهم لقيم الثورة الفرنسية وتراثها، واعتبروا مثلا أن إنصاف المجلس الأعلى للدول الفرنسية لتلك المرأة التي تم إجبارها على نزع لباسها الشاطئي، المخالف للائكية، خذلانا لهم وتنازلاً، وخيانة لا مبرر لها، لفائدة هؤلا المتعصبين العرب.
ما قدّمه المفكر الثائر فرانز فانون (صاحب رائعة "معذبو الأرض")، خلال خمسينيات القرن الفارط، سيكون مفيدا لفهم هذه النزعة على اعتبار أن مثل هذه المشاعر تقوم على كثير من العقدة البنيوية التي رسخها الاستعمار الفرنسي، في بورجوازيتنا الوطنية الذليلة، وهي عقد تعيد إنتاجها نفسها من خلال عدة آليات شعورية وغير شعورية، تتجدّد عبر الأجيال، وتبتكر جديد التعبيرات. أما ما لم يذكره فانون، لأنه لم يعاصر ذلك، فإن وراء هذه النزعة لوبيات تملي مصالحها، فالأمر لا يعد مجرد ترف فكري، بل مصالح حيوية واستراتيجية، يرى بعضهم أنها مسألة حياة أو موت. لا يمكن أن ننكر أن ما يحدث في محيطنا العربي لا يمنحنا اعتزازاً بوضعنا، لكن هذا لا يخول مطلقا اعتبار العروبة معرّة.
لا شك أن صعود حركة النهضة (الإسلام السياسي عموماً)، وحالة الاستقطاب الحاد بين النخب السياسية التونسية، دفعا بهذه النزعة التي عرفتها تونس منذ الاستعمار وحتى خلال بناء الدولة الوطنية إلى بلوغها ذروتها وشراستها، خصوصا وقد التحقت بهؤلاء الفرنكفونيين فئة جديدة،
كانت اللغة المستعملة في وسائل الإعلام العمومية هي العربية، أو أحيانا اللهجة التونسية المهذبة التي شهد لها عميد الأدب العربي طه حسين بأنها، في صفائها وسلامتها، أقرب اللهجات إلى اللغة العربية. ولكن، يبدو حاليا أن هذه اللهجة، من خلال التدمير الممنهج والذي تعرضت له، غدت وضيعة، بما حشر فيها من غريب اللفظ وأوضعه، وظل الإشهار من خلال تخليق هذه اللهجة الغريبة من مفرداتٍ فرنسية مقاولاً متميزاً في تدمير اللغة العربية، فضلا عن مشاعر الامتهان لأهلها وأصولها وقواعدها. لم يعد غريباً أن تستمع إلى مذيعي الإعلام العمومي ومنشطيه يستهزئون باللغة العربية، أما اعتداؤهم السافر، فتلك بضاعة شريفة، يتنافسون على عرضها على مسامعنا.
تتخذ هذه النزعة الفرنكفونية من مجال الثقافة والتعليم والسياسة متاريسها وحصونها الأكثر مناعةً، ولقد استطاعت أن تشكل لوبيات وشبكات من المصالح، وحتى أحاسيس الانتماء الشعوري، ورأينا أيضا أن أصحاب هذه النزعة طوروا من استراتجياتهم، بل استغلوا أخطاء حدثت مع الحكومات المتعاقبة لتملك ما كان مهملاً في ثقافتهم أصلاً، فهم دعاة "الإسلام الشعبي التونسي الأصيل"، وقد حاربوه حينا من الدهر، وهم أيضا حماة أولياء الله الصالحين وزوار أضرحتهم وزواياهم، فضلا على اللباس التقليدي التونسي. ولقد طوروا وجددوا استراتيجياتهم، حينما استحوذوا على الأصالة ونزعوها كالعادة من سياقها العربي العام، وألحقوها بتلك النزعة، يقدم هؤلاء خلطة غريبة من وصفات التراث والفرنكفونية معاً، حتى يبدون كأنهم هوية البلاد وجوهرها الأصلي.
لا تمثل الفرنكفونية، كما ذكرنا سابقا، مجرد ولع ثقافي، أو فكري، بمنجزات الحضارة
ما قدّمه المفكر الثائر فرانز فانون (صاحب رائعة "معذبو الأرض")، خلال خمسينيات القرن الفارط، سيكون مفيدا لفهم هذه النزعة على اعتبار أن مثل هذه المشاعر تقوم على كثير من العقدة البنيوية التي رسخها الاستعمار الفرنسي، في بورجوازيتنا الوطنية الذليلة، وهي عقد تعيد إنتاجها نفسها من خلال عدة آليات شعورية وغير شعورية، تتجدّد عبر الأجيال، وتبتكر جديد التعبيرات. أما ما لم يذكره فانون، لأنه لم يعاصر ذلك، فإن وراء هذه النزعة لوبيات تملي مصالحها، فالأمر لا يعد مجرد ترف فكري، بل مصالح حيوية واستراتيجية، يرى بعضهم أنها مسألة حياة أو موت. لا يمكن أن ننكر أن ما يحدث في محيطنا العربي لا يمنحنا اعتزازاً بوضعنا، لكن هذا لا يخول مطلقا اعتبار العروبة معرّة.