بحلول أزمة كورونا منذ حوالي أربعة أشهر، تعمّقت أزمة صناعة الكتاب في الوطن العربي، ومنه الأردن، في ظلّ غياب استراتيجيات لتوطين القراءة بوصفها جزءاً فاعلاً في أية عملية تنمية تربط تطوّر قطاعات الصناعة والزراعة والصحة والبيئة وغيرها بتحديث المعرفة، وليس باستيرادها ومحاكاة تطبيقاتها فقط.
رغم الدعوات المتكرّرة لتأسيس مؤسسة توزيع عربية كبرى تُؤسّس فروعاً لها في معظم المدن من المحيط إلى الخليج، مهمّتها الأساسية تسويق الكتاب لها طوال العام، إلا أن اعتماد الناشرين الأردنيين كان على معارض الكتاب العربية باعتبارها نقاط البيع شبه الحصرية، والتي تأجلّت جميعها حتى نهاية العام.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يشير أكرم سلامة مدير "دار البيروني" في عمّان إلى أن "الجائحة خنقت المنتجات الثقافية بشكل عام نتيجة الإغلاق وانسداد منافذ التوزيع، ورغم أن الكتاب جوهر ومرتكز هذه المنتجات بكلّ أشكالها سواء فلمية كانت أو مادة إلكترونية أو منتجاً صوتياً، أو لوحة فنية فإنه هو الطرف الأضعف والذي عادة ما يتعرض للتهميش الخانق في ضوء عدم قدرة أطراف عملية إنتاجه على تحمل تكلفة صناعته ليكون سلعة قابلة للتداول ويصل صداها إلى الجميع".
يتوقّع تغيّر أنماط القراءة والتوجّه أكثر نحو الكتاب الرقمي
يتابع: "لكي تصمد صناعة النشر وتتطور وهي جوهر وقلب المنتجات الثقافية فلا بد من أن تتكاتف كل الأطراف، فالكاتب والمؤلف عليه الارتقاء بتفكيره والإبداع في ابتكار وتصوير حاجات الناس وإنتاج أفكار تتوافق معها، والناشر عليه أن يضع معايير جودة عالية ويختار مواضيعه ويخضعها لأرقى المواصفات الشكلية والمضمونية ليتسنى له تلبية احتياجات المستهلك (القارئ)".
كما يرى أن "على الصحافة ان تكون صادقة وجريئة في تناولها وعرضها لمحتوى الكتاب وانتقاده لتقويم هذا المنتج الأساس في صناعة المنتجات الثقافية، وعلى الدول والوزارات المعنية أن تغيّر أنماط الشراء والتشجيع على اقتناء الكتب ما يسهم في وصول الكتاب إلى جميع القرّاء".
ولا يستثني سلامة القارئ الذي يأمل منه أن يصبح "أكثر نضجاً وتعبيراً عن رأيه خصوصاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها، لأن تناول المادة المطروحة في الكتاب وشكله وانتقاده بات له تأثير كبير لم يستغلّ بعد، ويختم بأن "الجائحة ستضع صناعة النشر أمام نقلة نوعية تكريساً لمقولة ابن خلدون في مقدمته: "اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التأليف".
في قطاع آخر، تحضر الأسئلة ذاتها مع تحديات تخصّ العملية التعليمية على صعيد المناهج وطرائق التدريس بعد انتشار "كوفيد – 19"، والذي يعتقد مدير "دار المنهل" خالد أمين بأنه فرض على العاملين في قطاع النشر التعليمي التفكير خارج الصندوق، والبحث عن وسائل غير تقليدية، للتواصل مع الجمهور وخلق آليات جديدة لنشر الكتب وقراءتها. من هنا، انطلق توجّه كبير نحو النشر الرقمي من ناحية، والتوزيع أونلاين سواء كان عبر منصات إلكترونية للكتاب أو عبر شركات التوزيع والشحن الداخلي أو الخارجي، وقد يتطور الأمر بحسب تفاعل جمهور القراء، إضافة إلى مؤسسات التوزيع والنشر".
تكاد معارض الكتاب أن تكون نقاط التوزيع شبه الحصرية
ويلفت إلى أن "الظروف العامة التي ألقت بظلالها إثر تأجيل المعارض العربية سيؤثر بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة، ولن يتمكن الناشر من الوصول إلى الأسواق التقليدية التي اعتاد على ارتيادها بنفس الطريقة السابقة، إذ بدأت المؤسسات التربوية تتوجّه نحو التعليم عن بعد والتعليم الرقمي، وتحرص على التعامل مع الكتاب المعزز بنسخة إلكترونية، فإما أن تتطور صناعة النشر بطريقة تتواءم مع المعطيات الجديدة أو سيضطر العديد من الناشرين إلى الخروج من السوق وهو ما حدث مع كثير من الدور الصغيرة".
يضيف أمين "ما زلنا في حالة مخاص، لكني أستبعد أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، إلى جانب تغيّر مفاهيم الناس حول استهلاك الكتاب، والتوجّه أكثر نحو الكتاب الرقمي، وإذا ما عادت موجة ثانية من الجائحة، فإن الفصل الدراسي في خريف العام الجاري سيتعطّل أيضاً، ما سيربك قطاع النشر الأكاديمي والتعليمي مرة أخرى".
ويوضّح أنه لا توجد دراسات لتحليل سلوكيات القراءة وتغيير أنماطها، لكن الاهتمامات باتت تتحوّل بالتأكيد، كما زاد تفاعل الجامعات والمدارس وأولياء الأمور، مع التعليم الذي سيشهد تحولات كبيرة أيضاً، سواء في مضامين المواد التعليمية أو أساليب تدريسها، ما يتطلّب توسعاً في الإصدارات الرقمية، واستخدام تطبيقات جديدة وبرامج ومواد تعليمية إلكترونية".
المعضلة في الأردن، بحسب أمين، بأن النشر "ليس من أولويات الحكومة وليس هناك اهتمام حقيقي لصانع القرار ضمن خططه التنموية، وكان يجب التفكير بشكل جدي وعميق لإعادة تنظيم الأدوات من خلال العمل على التعليم الإلكتروني، وعقد شراكات حقيقية تصنع حلولاً تتعدى الأزمة، التي لم تدر ضمن تقديرات صحيحة وتوظيف جميع الأفكار والكفاءات والجهود لإدارتها وإيجاد حلول ناجعة".
يشترك في وجهة النظر هذه، خالد جبر حيف مدير عام "دار الثقافة"، والأمين العام المساعد لاتحاد الناشرين العرب، الذي يرى أن "مشكلة الكتاب في الأردن والعالم العربي تعود إلى ما قبل الجائحة، حيث كانت معدلات التوزيع منخفضة جداً مع تراجع القراءة التي تشكّل آخر أولويات المواطن الأردني، والعربي عموماً الذي تدهورت أوضاعه الاقتصادية أكثر فأكثر".
ويبيّن أن "كورونا أدخلت صناعة النشر في مرحلة الاحتضار حيث يغيب أي دعم لها سواء أكان حكومياً أم من القطاع الخاص، مع تراجع سوق النشر محلياً بشكل شبه كامل، وتوقّف المشاركات في جميع المعارض العربية والدولية، والذي يعني أن العديد من الدور تسير نحو الإغلاق".
يحمّل حيف وزارة الثقافة جزءاً من المسؤولية عن الأزمة والخسارات المترتبة حتى نهاية العام الجاري، وربما حتى منتصف السنة المقبلة، مشيراً إلى أنها لم تصغ إلى الناشرين في أزمات سابقة كما حدث عام 2018، حين أصدرت الحكومة ضريبة على الكتاب قيمتها 10% قبل أن تعود عن قرارها لاحقاً".
من جهة أخرى، تعكس المكتبات الأزمة الحالية على نحو مكثّف، حيث يوضّح أحمد أبو طوق مدير "الدار الأهلية" مالكة إحدى أكبر محلات بيع الكتب في عمّان، أن القراءة آخذة بالانحسار كما تثبت أرقام التوزيع التي انخفصت إلى ما دون عشرة بالمئة مقارنة بحجمها بالفترة ذاتها من العام الماضي".
كما أن آليات البيع آخذة في التبدل، حيث يشير إلى أن الشركات الناشئة حديثاً وتؤمن إيصال الكتب إلى القارئ مباشرة باتت تستحوذ على معظم ما يتمّ توزيعه الآن، بحيث لم تعد تشاهد زوّاراً للمكتبة كما كان سابقاً، ما يعني تغيّراً متوقعاً قد ينسحب على طبيعة اختيار القراء وأمزجتهم في المستقبل.
سوق النشر المحلية التي تشهد تراجعاً مستمراً في السنوات الأخيرة، بحسب أبو طوق، تنذر بمزيد من الانهيارات المحتملة، مع عدم قدرة الناشرين على تحمّل تكلفة صناعة الكتاب مع نسب إقبال منخفضة، وفي الوقت نفسه تتوجّه المؤسسات الثقافية في البلدان العربية، الخليجية تحديداً، إلى التقشّف في ميزانياتها التي كان يذهب جزء منه لاقتناء الكتاب العربي.
كما يدعو إلى التوقّف عند الأعداد الكبيرة من الكتّاب الذين يتواصلون معه من أجل نشر مخطوطاتهم، ما ينبئ بأحد إحتمالين؛ أولهما عزوف العديد من الدور عن نشرها أو أننا أمام مشهد يدعو إلى التأمل حيث هناك ازدهار في الكتابة والتأليف مقابل غياب القارئ أو اختفائه مؤقتاً.