الواقع المسحور في خطاب نصر الله
في خطابه أمام جمع من جمهوره المنتخب، وضيوفه المنتقين في الضاحية الجنوبية لبيروت، الجمعة 25 يوليو/تموز، جعل السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، القضية الفلسطينية موضوعاً رئيسياً للخطاب، في ضوء تواصل الحرب الإسرائيلية على غزة، وحلول يوم القدس (الجمعة الأخيرة من رمضان)، وهي مناسبة أطلقها الخميني في العام 1979. وقد ربط نصر الله، وبإلحاح لافتٍ، بين صمود المقاومة في غزة ومعاني يوم القدس، ثم "الدعم متعدد الأوجه الذي قدمه محور الممانعة والمقاومة لقضية فلسطين وشعبها". وعلى هذا، مثّل الخطاب مرافعة تقدم بها نصر الله عن هذا المحور الإقليمي وباسمه، ودعا مستمعيه، في القاعة وخارجها، إلى التبصر بدور هذا المحور بقيادة إيران (إذ يسير المرجع علي خامنئي على طريق الإمام الخميني ويكملها). وبهذا، أراد الخطيب التنويه، بوضوح، إلى أن مشروع المقاومة الوطنية في لبنان الذي آل إلى مقاومةٍ إسلامية، يقودها السيد نصر الله، بات يتعدى تحرير الجنوب اللبناني ومرتفعات شبعا، إلى الانخراط في محور سياسي إقليمي دائم السعي إلى بسط نفوذه في المنطقة، ومع تركيزه على فلسطين وغزة، فإن نصر الله لم يغفل إشارات إلى ساحاتٍ أخرى تنادي هذا المحور. وهو ما هتف به هاتفٌ وحيد وسط الجمع، بصوت جهوري جياش، قبل دقائق من مباشرة الخطيب إلقاء خطابه الذي تحدث، باستفاضةٍ، عن صمود غزة ومقاومتها وشعبها، وعن إخفاق الإسرائيليين في حملتهم المسعورة "الجرف الصامد"، مع الربط بين حرب تموز على لبنان في 2006 والحرب الدائرة راهناً على غزة. مُنهياً هذا الاستعراض الذي يتفق المرء مع كثيرٍ مما ورد فيه إلى دعوة المقاومة الفلسطينية إلى استعادة زخم العلاقة مع المقاومة الإسلامية في لبنان خصوصاً، ومع محور الممانعة والمقاومة (المحور الإيراني)، على الرغم من وجود خلافات واختلافات وحساسيات حول ساحات أخرى (المقصود سورية).
يسترعي الاهتمام أن حزب الله ومحور إيران لم يبد اهتماماً يذكر بالحرب على غزة، حتى بعد مضي أسبوعين على اندلاعها، وجاء خطاب نصر الله في اليوم الثامن عشر لها، وواضح أن المحور العتيد، المنصرف عملياً وسياسياً إلى أمور أخرى في ساحات أخرى، قد أجرى حسابات باردة متمهلة طوال هذه الفترة، ممتنعاً عن إبداء موقف قد يحسب لصالح حماس ومن يؤيدها، إلى أن انتهت الحسابات الباردة بأنه يمكن لمحور الممانعة الإيراني أن يجني مكاسب سياسية، ويقوم بعمليةٍ أقرب إلى خلط الأوراق، ويصرف أنظار الجمهور عن أداء هذا المحور، إذا ما أعرب عن دعمٍ خطابيٍّ، لفظي حار لصمود غزة. وهو ما كشف عنه خطاب السيد نصر الله، وسبقته بأيام تصريحات في الاتجاه نفسه لمرشد الثورة والمحور السيد خامنئي. وبطبيعة الحال، فإن هذا الدعم "المعنوي" لا يغيّر شيئاً من جدول الأعمال الفعلي والجاري في "ساحات" سورية والعراق واليمن ولبنان، وما يتيسر من ساحات أخرى، على الرغم مما شدّد عليه نصر الله، وكررّه من مركزية القضية الفلسطينية، بل إنه تناول في خطابه مخططات معادية لـ "تدمير الشعوب والمجتمعات"، لصرف انتباهها عن القضية المركزية وإدامة الخلافات في صفوفها. وفي هذا، تناول فظائع حركة داعش في الموصل ضد العراقيين المسيحيين والمسلمين من سنّة وشيعة، واستهداف دور العبادة والأضرحة والمراقد، وفي ذلك تشخيص صائب لهذا الخطر، لا يملك عاقل إلا الاتفاق فيه، تمام الاتفاق، مع فحوى هذا التناول.
على أن السيد نصر الله، وقد واظب في خطابه على عقد صلاتٍ بين حرب تموز والحرب
الراهنة على غزة، وعلى العدو الاستراتيجي الواحد للأمة، فإنه لم يُحط مستمعيه بما تحمله هذه الصلة "العضوية الوثيقة" بين المقاومة في فلسطين وفي لبنان، من التزامات وأدوار واجبة أو مفترضة في حالة تعرض أحدها للاستهداف الحربي الشامل، كما هو حال "شريط غزة على البحر" الذي يتلقى آلاف الغارات الجوية من العدو. وإذا كانت القضية (الفلسطينية) مركزيةً، كما فتئ السيد نصر الله يشدد، فما بال المقاومة الشقيقة تنصرف، باستغراقٍ كلي، إلى أمور أخرى على ساحات أخرى؟ وكيف يمكن الجمع، في هذه الآونة، بين هذا التأييد الحماسي المطلق للقضية وشعبها، من طرف حزب الله، وسلوكه على الأرض سلوكاً مغايراً، يجعل من اصطفافه مع النظام في دمشق "حرب وجود" وجهاداً سامياً ودفاعاً عن المقدسات وأولوية مطلقة؟ فمن نُصدّق؟ وما هي القضية المركزية حقاً؟ وأين؟ الجواب: نُصدّق ما تراه العين المجردة على الساحة الأخرى، ونحتكم إلى الوقائع الحسية، بصرف النظر عما يثيره الخطاب من نشوة في النفس!
الرجل يلقي خطابه بطريقته المفوهة، المؤثرة وشبه العفوية، والمستمعون يُصغون، وليس لأحد بالطبع فرصة مناقشة الخطاب، لكن البشر لا يتوقفون عن ممارسة حقهم في التفكير والتأمل وعقد المقارنات، ومطابقة المقول مع الأعمال في أثناء إلقاء الخطاب وبعده.
تحدث نصر الله عن تدمير الشعوب والمجتمعات، ولم يحدث في تاريخ العرب الحديث أن تعرض شعبٌ ومجتمع للتدمير على يد نظامه، كما يتعرض له شعب سورية عقاباً على مطالبته بالحرية والكرامة، أسوة بكل الشعوب، وما زال التدمير جارياً على قدم وساق، وبمشاركة كاملة من حزب الله الذي أعطى لنفسه حق معاقبة شعب شقيق هو الشعب السوري. حتى إن حواضر تاريخية كاملة، مثل حمص وحماة وحلب نالها تدمير شبه كامل، وهو أمر لا يستوقف البتة السيد نصر الله، فيما تم تهجير نحو عشرة ملايين سوري بالإكراه، وتحت طائلة الرعب والتقتيل، إلى دول الجوار وبقية دول العالم، وتدمير الشعب السوري على هذا النحو لا يندرج، كما هو بادٍ في مقولة تدمير الشعوب والمجتمعات التي تطرق إليها الخطيب، الذي حافظ في خطابه، كما في خطاباته السابقة، على أن كلمة "سورية" التي يرددها باستمرار تعني النظام وحده، وطرح الشعب جانباً!
تحدث نصر الله محقا عن فظائع داعش البدائية. وحسنا يفعل، هو أو غيره، بعدم السكوت على هذه الجرائم المشينة والبدائية. لكن هذه الفظائع لم تكن الوحيدة، أو الأولى من نوعها، فقد سبقها تدمير ألف مسجد على الأرض السورية، حتى لم تبق هناك مساجد سليمة سوى الجامع الأموي وبضعة مساجد أخرى، في وقت كان فيه حزب الله، وما زال، يعلن أن وقوفه مع النظام في دمشق "واجب أخلاقي"، وبما هيأ لتكرار مثل هذه الجرائم على أرض العراق لاحقاً.
قدًم خطيب "يوم القدس" في بيروت أطروحة مسهبة حول القضية الفلسطينية، تدير الرؤوس نشوة، لكنه قفز عن أسئلةٍ عنيدة يطرحها الواقع، من قبيل: بماذا يفيد القضية الفلسطينية تمزيق الجيش، وتهتيك النسيج الاجتماعي، وتدمير البنى التحتية والفوقية، واقتلاع ملايين السوريين من ديارهم؟ وما الرسالة المبثوثة في عدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأرض السورية، والاستغراق بدلاً من ذلك في توجيه طوفان النار نحو الشعب؟ وكيف لأي مقاومةٍ، ولأي بلد انتسبت، أن تندفع لاستباحة حدود شعب شقيق وأرضه، والتنكيل به؟ وما هي الخدمة المُسداة، ولأي طرفٍ بالتحديد، في الانهماك بالفتك بشعب عربي، وتقويض كل مظاهر الحياة والعمران في بلد هذا الشعب؟
الخطاب جميل، لكن واقع الحال مختلف جِدّا.