21 مارس 2018
اليونسكو.. تسييس الثقافة
مريم الخاطر
كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.
ما أن اقترب موعد التصويت الختامي لإعلان النتيجة بين المتنافسيْن على منصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو) الفرنسية أودري أزولاي والقطري حمد بن عبدالعزيز الكواري الذي تصدّر الجولات الأولى في انتخاباتها، إلا وظهرت المناكفات السياسية العربية، بل وشاركتها المناورات السياسية المدروسة في توقيتها أيضا بإعلان وزارة خارجية دونالد ترامب قرار انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة الأممية، وتبعته مباركة إسرائيلية، وإعلان حكومة نتنياهو استعدادها لانسحاب إسرائيل أيضا.
ليس الحديث هنا تقليديا عن سبب إقدام الراعي الصهيوني وابنته الربيبة على الخروج المتوازي المستجد عام 2017 إثر عودة أميركا إلى "اليونسكو" عام 2003، بعد انسحابٍ سابق لأسباب مسيسة، بل حديث أيضا عن التوقيت التواطؤي مع إسرائيل وحملة المتصهينن العرب أيضا التي بلغت مداها قبيل لحظات الإعلان النهائي بين المرشحة الفرنسية والمرشح القطري.
تسييس الثقافة ليس جديدا، خصوصا عندما يتعلق الموضوع بإسرائيل وحرب المفاهيم في أروقة "اليونسكو" ضد أي مشروع ينصف حق الفلسطينيين العرب في أرضهم وثقافتهم، مثل حق رفض المنظمة نسبة القدس عاصمة لإسرائيل، ما عرّض "اليونسكو" للضغوط والاعتراض وحروب المصطلحات، خصوصا أن العداء استشرى بعد تحقيق فلسطين العضوية الكاملة عام 2011.
قلب الحقائق لدى إسرائيل وعرّابيها الأميركيين، بكيل التهم، حقيقة لا نغفل عنها، تريد تطويع كل منظمة أممية لصالحها باللعب على أوتار السياسة واللغة، حتّى لو قضت "اليونسكو" بالحق الفكري والتاريخي للأرض، فيجب أن يكون الحق متحيزا لإسرائيل، وإلا فالنعوت جاهزة بمعاداة السامية، بل حتى السرقات الفكرية لم يسلم منها الحمّص والفلافل، حتى تسلم منه الأرض، فهما امتداد لحقوق الملكية الفكرية الفلسطينية التي سُجلت اسما وصفةً باسم إسرائيل المحتلة، ليس فيها فحسب، بل في كل الدول الغربية التي مهدت لقيام دولة إسرائيل، فاحتلال الفكر والذهنية أمر يسبق احتلال الأرض.
يذكرنا توقيت تصريح ترامب بالانسحاب بأسلوب العصا والجزرة، خصوصا بعدما تأكد شكنا في توقيت التصريح عشية ليلة الانتخاب النهائي لليونسكو قبيل 13 أكتوبر/ تشرين الأول
2017 من خلال أمرين: أن مراقبين سياسيين في "اليونسكو" رأوا أن انسحاب واشنطن تم بالتنسيق مع فرنسا، لإضعاف موقف المرشح القطري، بل وأكد مراقبون أنها ستعود إلى المنظمة في حال فوز المرشحة الفرنسية. وأن أول تصريح للفرنسية أزولاي بعد فوزها أنها "ستعمل جاهدة على إعادة أميركا وإسرائيل"، وقالت إنها "واثقة بالنجاح في إعادتهما".
تشعب الورم السياسي خصوصا بعد حملة التحريض والمناكفات العربية التي تبنتها دول خليجية وعربية (دول حصار قطر 2017) داخل أروقة الدبلوماسية وخارجها في "اليونسكو"، فالمرشحة المصرية، مشيرة خطاب، التي خسرت أمام الفرنسية شاطرت إسرائيل خشيتها من فوز المرشح القطري. بل كانت أول رسالة لها على "تويتر"، كما تناقلتها وكالتا الأنباء الفرنسية ورويترز هي: إعادة نشر مقال في الصحافة الإسرائيلية "إسرائيل تتحسر على الانتصار القطري الواضح في التصويت على قيادة اليونسكو". وقد بدا أن حملة التحريض، وتوابعها من هتاف "تحيا فرنسا وتسقط قطر"، تولتها الجمهورية العربية، صاحبة أكبر حضارة في الأرض، وأنصع تاريخ في معاداة مرشحي العرب كالعادة في جولات المنافسة على منصب مدير عام "اليونسكو" والتاريخ شاهد.
لم يخجل نفر من العرب من دعم المرشحة الفرنسية ضد مرشح قطر، على حد تصريح مسيس تقلده وزير الخارجية المصري سامح شكري، عن حكومته مناكفةً لقطر، خصوصا أن آلة التحريض الإعلامي المصري لم تفتر عن التشهير بمرشح قطر الكفء وبلده. وهذا متوقع، ولذلك كان رد الفعل القوي الفوري، بعد هزيمة مرشحة مصر مشيرة خطاب، هو دعوة القاهرة إلى التصويت للوزيرة الفرنسية السابقة، وهذا ما قامت به دول الحصار. وجاءت هذه الحملة أشد ضراوة، مؤقتة ومنظمة مع ثلاثي الحصار ضد قطر، إذ لم تدخل فيها تلك الدول المنافسة الثقافية المحمودة، بل المؤامرات السياسية على بلد ناجح، لم يعتمد في رسم مستقبله وحضارته، مثل غيره، على سياسةٍ تجتر الماضي، وتطلب المقعد اعتمادا على الفخر به، ولكنه اعتمد على رسم الحاضر والمستقبل بلغة الإنجازات الثقافية والتعليمية المبهرة التي تصدرت فيها دولة قطر أرقام التعليم ومؤشراته في إحصائياته السنوية على المستوى العربي، وقدمت سبقا مشهودا في تجارب رائدة، جعلتها في طليعة الدول على الصعيد العالمي، كما أضافت أبعادا أخرى دخلت فيها مواقعها ومدنها تاريخ التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
لدى بعض متصهيني الخليج، يحارب الفاشل الناجح. أما مصر اليوم فإنها، للأسف، تعيش فتوّة لم تفشل فيها فقط في الاستناد إلى المجد التاريخي العظيم لحضارة الفراعنة، بالمحافظة عليها
وترميمها، أو على ما جاء بعدها في ظل الحضارة الإسلامية، بل فشلت حتى في "البر بأبيها" فضلا عن أن تقول: "هـا أنا ذا". والحقيقة التي تجرعتها دول الحصار، بمرارة، أن قطر تصدرت خمس جولات متقدمة من التنافس الحرّ الشريف، وخسارة المقعد في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2017 في الجولة النهائية فقط بفارق صوتين، فنالت الفرنسية 30 صوتا، وأحرز القطري 28 صوتا. وبذلك نالت قطر شرف الصدارة العالمية في التنافس النهائي مع كبريات الدول في أعلى المجالات، الثقافة والفكر والحقوق والحريات. أما ما كان من بعض العرب، فلم تجد أروقة "اليونسكو" للشرف لديهم مكانا، فضلا عن فقدان معطياته. ولا يغيب أيضا أن قطر حققت شهادة ريادة في ظل حرب ضروس واجهتها على مختلف الصعد من دول الحصار، حتى في جولات الترشح، إذ كان فشل مرشحي العرب السابقين في دورات التنافس السابقة على منصب مدير عام "اليونسكو" بسبب مناكفة العرب بعضهم بعضا بتقديم مرشحين أضعف عربيا، بدلا من دعم الأقوى حينها، لكن مرشح قطر صمد متصدرا إلى الجولة الأخيرة القوية، وبفارق بسيط جدا، على الرغم من التسييسس الأعمق، وزج مشروعات الفكر في الخصومات السياسية.
ينص الميثاق على أن إدارة "اليونسكو" منصب دولي عام، ومشاريعه عالمية لا تنظر إلى الجغرافيا، لكن السؤال هو أنه إذا استشرى الفجور السياسي وسرطان أميركا وإسرائيل وتهديدهما، وأدى إلى قلب آلية عمل المنظمة في ظل الوعد بإعادة المتوعدين بتسييسها، فهل ستنجح "اليونسكو" في أن تنأى بنفسها عن التسييس، بوصفها منظمة عالمية القيم والتوجه؟ وهل ستستمر في قراراتها الدولية الملزمة في المساواة والاحترام في استقلالية سياسية واقتصادية، كما ينص عليه ميثاقها ووثيقتها التأسيسية، خصوصا أن نزاهة "اليونسكو" انتصار للتاريخ والثقافة، لا الجغرافيا السياسية والمصالح الدولية المتغيرة. .. الأيام المقبلة ستكشف اللثام ...
Twitter: @medad_alqalam
ليس الحديث هنا تقليديا عن سبب إقدام الراعي الصهيوني وابنته الربيبة على الخروج المتوازي المستجد عام 2017 إثر عودة أميركا إلى "اليونسكو" عام 2003، بعد انسحابٍ سابق لأسباب مسيسة، بل حديث أيضا عن التوقيت التواطؤي مع إسرائيل وحملة المتصهينن العرب أيضا التي بلغت مداها قبيل لحظات الإعلان النهائي بين المرشحة الفرنسية والمرشح القطري.
تسييس الثقافة ليس جديدا، خصوصا عندما يتعلق الموضوع بإسرائيل وحرب المفاهيم في أروقة "اليونسكو" ضد أي مشروع ينصف حق الفلسطينيين العرب في أرضهم وثقافتهم، مثل حق رفض المنظمة نسبة القدس عاصمة لإسرائيل، ما عرّض "اليونسكو" للضغوط والاعتراض وحروب المصطلحات، خصوصا أن العداء استشرى بعد تحقيق فلسطين العضوية الكاملة عام 2011.
قلب الحقائق لدى إسرائيل وعرّابيها الأميركيين، بكيل التهم، حقيقة لا نغفل عنها، تريد تطويع كل منظمة أممية لصالحها باللعب على أوتار السياسة واللغة، حتّى لو قضت "اليونسكو" بالحق الفكري والتاريخي للأرض، فيجب أن يكون الحق متحيزا لإسرائيل، وإلا فالنعوت جاهزة بمعاداة السامية، بل حتى السرقات الفكرية لم يسلم منها الحمّص والفلافل، حتى تسلم منه الأرض، فهما امتداد لحقوق الملكية الفكرية الفلسطينية التي سُجلت اسما وصفةً باسم إسرائيل المحتلة، ليس فيها فحسب، بل في كل الدول الغربية التي مهدت لقيام دولة إسرائيل، فاحتلال الفكر والذهنية أمر يسبق احتلال الأرض.
يذكرنا توقيت تصريح ترامب بالانسحاب بأسلوب العصا والجزرة، خصوصا بعدما تأكد شكنا في توقيت التصريح عشية ليلة الانتخاب النهائي لليونسكو قبيل 13 أكتوبر/ تشرين الأول
تشعب الورم السياسي خصوصا بعد حملة التحريض والمناكفات العربية التي تبنتها دول خليجية وعربية (دول حصار قطر 2017) داخل أروقة الدبلوماسية وخارجها في "اليونسكو"، فالمرشحة المصرية، مشيرة خطاب، التي خسرت أمام الفرنسية شاطرت إسرائيل خشيتها من فوز المرشح القطري. بل كانت أول رسالة لها على "تويتر"، كما تناقلتها وكالتا الأنباء الفرنسية ورويترز هي: إعادة نشر مقال في الصحافة الإسرائيلية "إسرائيل تتحسر على الانتصار القطري الواضح في التصويت على قيادة اليونسكو". وقد بدا أن حملة التحريض، وتوابعها من هتاف "تحيا فرنسا وتسقط قطر"، تولتها الجمهورية العربية، صاحبة أكبر حضارة في الأرض، وأنصع تاريخ في معاداة مرشحي العرب كالعادة في جولات المنافسة على منصب مدير عام "اليونسكو" والتاريخ شاهد.
لم يخجل نفر من العرب من دعم المرشحة الفرنسية ضد مرشح قطر، على حد تصريح مسيس تقلده وزير الخارجية المصري سامح شكري، عن حكومته مناكفةً لقطر، خصوصا أن آلة التحريض الإعلامي المصري لم تفتر عن التشهير بمرشح قطر الكفء وبلده. وهذا متوقع، ولذلك كان رد الفعل القوي الفوري، بعد هزيمة مرشحة مصر مشيرة خطاب، هو دعوة القاهرة إلى التصويت للوزيرة الفرنسية السابقة، وهذا ما قامت به دول الحصار. وجاءت هذه الحملة أشد ضراوة، مؤقتة ومنظمة مع ثلاثي الحصار ضد قطر، إذ لم تدخل فيها تلك الدول المنافسة الثقافية المحمودة، بل المؤامرات السياسية على بلد ناجح، لم يعتمد في رسم مستقبله وحضارته، مثل غيره، على سياسةٍ تجتر الماضي، وتطلب المقعد اعتمادا على الفخر به، ولكنه اعتمد على رسم الحاضر والمستقبل بلغة الإنجازات الثقافية والتعليمية المبهرة التي تصدرت فيها دولة قطر أرقام التعليم ومؤشراته في إحصائياته السنوية على المستوى العربي، وقدمت سبقا مشهودا في تجارب رائدة، جعلتها في طليعة الدول على الصعيد العالمي، كما أضافت أبعادا أخرى دخلت فيها مواقعها ومدنها تاريخ التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
لدى بعض متصهيني الخليج، يحارب الفاشل الناجح. أما مصر اليوم فإنها، للأسف، تعيش فتوّة لم تفشل فيها فقط في الاستناد إلى المجد التاريخي العظيم لحضارة الفراعنة، بالمحافظة عليها
ينص الميثاق على أن إدارة "اليونسكو" منصب دولي عام، ومشاريعه عالمية لا تنظر إلى الجغرافيا، لكن السؤال هو أنه إذا استشرى الفجور السياسي وسرطان أميركا وإسرائيل وتهديدهما، وأدى إلى قلب آلية عمل المنظمة في ظل الوعد بإعادة المتوعدين بتسييسها، فهل ستنجح "اليونسكو" في أن تنأى بنفسها عن التسييس، بوصفها منظمة عالمية القيم والتوجه؟ وهل ستستمر في قراراتها الدولية الملزمة في المساواة والاحترام في استقلالية سياسية واقتصادية، كما ينص عليه ميثاقها ووثيقتها التأسيسية، خصوصا أن نزاهة "اليونسكو" انتصار للتاريخ والثقافة، لا الجغرافيا السياسية والمصالح الدولية المتغيرة. .. الأيام المقبلة ستكشف اللثام ...
Twitter: @medad_alqalam
مريم الخاطر
كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.
مريم الخاطر