انتحار بعد سيجارة أخيرة
عريض المنكبين، يلبس بزته السوداء وقميصه الأبيض بتأنٍّ، لا كرافات طويلة ولا ببيونة. رشّات من البارفان الباريسي الغالي. يحتار، بدايةَ، بمكان كرسي الإعدام. يعلق الحبل في منتصف الغرفة، ينزع (التريّة) المنسدلة من السقف، ويضع المشنقة مكانها. سيجارة حمرة طويلة.
للانتحار طرقٌ عدة. احتارَ صراحةً أيها يختار، الكهرباء، السكين، المشنقة، رصاصة في الرأس، أشياء أخرى. لِم وقع اختياره نهايةَ على الكرسي والمشنقة؟ لماذا لم يكن شيئاً آخر؟
شعرٌ مُشبّك ولحية كثّة طويلة، ملابس رثة فضفاضة بألوانٍ مختلفة فاقعة، حياة بوهيمية تماماً. يكره الرتابة ويعاديها. عازف بيانو من رحم الشارع، ولأنه لا يملك ثمناً لبيانو حقيقي، اختار (الأورغ) عوضاً عنه، على الرغم من فرق الأصوات بينهما (أي بين البيانو والأورغ)، إلا أنه لم يملك خياراً آخر، ناهيك عن سهولة نقل الأخير مقارنة بالبيانو عظيم الحجم جميل الصوت، البيانو البني الرائع الذي رأيناه في فيلم (بيانيست)، لأدريان برودي، عن اضطهاد اليهود في الحرب الهتلرية المجنونة.
اعتاد الوقوف في شوارع دمشق القريبة من ميكرو (مهاجرين صناعة)، الحلبوني، البرامكة، فكتوريا، الحجاز. يبتعد أحياناً واصلاً شارع بغداد أو السبع بحرات. يقف عازفاً ألحانه مقابل القليل من الليرات. لم يجمع ثروةً من ذلك. قد يخرج بسندويشة فلافل وكازوزة أوغاريت برتقال آخر النهار فقط.
شارع الحمرة ممتلئٌ. تروح الناس وتجيء كأمواجِ بحرٍ متلاطمة، غيومٌ رمادية تحجب الشمس، نذيرُ مطرٍ قادم. تعب من الوقوف على قدميه، يفرد كرسيّه المطوي ويجلس، يتابع عزفه بحب. طفلان صغيران. امرأة في الستين، وبضع شبابٍ آخر يتابع عزفه. يمضي الوقت مسرعاً. يهطل الليل، هواءٌ بارد، قطراتٌ قليلة من المطر، تزيد فجأة وتقوى، مبللٌ هو ومنهك، يمشي باتجاه فندق الشام. يدخل إحدى الحارات والأورغ على ظهره. شعر بشيءٍ غريب، عينان تلاحقانه، خوفٌ وارتياب، ضيقٌ في النفس، سرعة في ضربات القلب. يلتفت خلفه، لكمة خاطفة على الوجه. يسقط أرضاً، يغيب عن الوعي. ساعتان كاملتان تحت المطر، يفتح عينيه، ألمٌ عام في الجسد، يتفقد محفظته. لا شيء، الأورغ أيضاً مختفٍ، لم يبقَ له ما ينقذه.
في ذلك اليوم، عاد مشياً إلى المنزل، وصل غارقاً بالماء. جسده جامد ومضعضع. الكهرباء مقطوعة وماء الحمام بارد، يخلع ثيابه، ينظر لنفسه في المرآة. يحلق ذقنه بشفرة. شعره كذلك أيضاً. حتى حاجباه كانا ثقيلين على وجهه. يتخذ قراره، لا شيء يرثى له. يشرب كوبه الأخير، ويدخن سيجارته الأخيرة. حبلٌ ومسماران. كرسيٌ مهتز. يرتب الغرفة بهدوء، المخدة في مكانها، أشرطة عبد الحليم كذلك. يلبس بذلته المنمقة الوحيدة. نقوشُ وردٍ باللون نفسه على القَبّة. يقف على الكرسي، الحبل عوضاً عن الكرافتة، يأخذ نفساً أخيراً. يبتسم، يرمي نفسه، وينتهي كل شيء.