انتهاكات بدون "وجع راس"

07 ديسمبر 2014

تظاهرة في القاهرة احتجاجا على انتهاكات حقوق الإنسان (26نوفمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -
تعيش النظم المستبدة، أو تلك الأمنية، مرحلة ذهبية في هذه الفترة، فوجود نماذج حية، وغير مسبوقة من الانتهاكات في المنطقة، يمنحها مساحة أرحب، لتكريس سياساتها وتوسيعها، من دون خشية من معاقبة أو محاسبة، أو حتى ضغط. فمنذ تعثر الثورة في سورية، والاستثناء يحكم المنطقة، ويبدو عنف النظم والأجهزة الأمنية والجيوش أقل إثارة للإدانات والمشاعر، وأصبحت الانتهاكات المتواصلة في دول المنطقة لا تستحق الذكر، إذا قورنت بما يجري حولنا.
قبيل اندلاع الثورات العربية، وفي مراحلها الأولى، تبدت العلاقة بين ممارسات الأنظمة المنتهكة لحقوق الإنسان، ومواجهتها ومحاولات الحد منها، فارتباط اقتصاد دول، تحديدا العسكرتارية والأمنية، بالمعونات القادمة من دول تنشط فيها مؤسسات حقوق إنسان، وجهات إعلامية منشغلة بالتأكد من أن أموال دافعي الضرائب لا تمول دولاً وأجهزةً تنتهك حقوق الإنسان، جعل آلية الفعل المضاد لانتهاكات الدولة يقتصر على إبراز الانتهاكات، وتوثيقها وإجلائها، أمام المراقبين والمهتمين وجماعات الضغط الحقوقية في شمال العالم. ومع تصاعد الضجيج، يأتي الضغط الدبلوماسي، المهدد أحياناً، بأن استمرار هذه الانتهاكات سيؤثر على العلاقة السلسة بين الممول والممول. ودفعاً لمزيد من "وجع الراس"، كان يمكن التراجع عن انتهاكات وإطلاق سراح معتقلين، وغيرها من الممارسات الاسترضائية.
يكشف الواقع عن أن هذه الآلية غير فعالة، اليوم، وأن ما انبنى اعتماداً عليها بات غير فعال، ولا صالحاً. ويتبع ذلك كل طرق الاحتجاج والرفض والتثوير الإعلامي. فيمكن استنتاج أن هنالك مستوى من العنف والانتهاك كان يدفع إلى التدخل، وإثارة الأمر إعلامياً، ولدى مؤسسات وجهات حقوقية، وهذا المستوى متحرك على وقع التطورات في المنطقة، فلا تستطيع مؤسسات إعلامية ضخمة، صمتت على قتل الأطفال وإعدام المعتقلين، أن تطلق الحملات، وتدفع لتحركات إثر قضية اعتقال مدون، أو كاتب، حتى الإشارة إلى خبر الانتهاك هذا تضيع وفق منطق الأولويات الإعلامية.
يضاف إلى ذلك تبدل منطق التمويل والمعونات والمساعدات في أوقات الحرب، فوجود سلسلة حروب مفتوحة، إحداها دولية على داعش، واصطفاف تيارات ومحاور وكسب ولاءات، يجعل للمساعدات الاقتصادية أثماناً مختلفة، ومقابلاً مختلفاً في هذه المرحلة، والتعويل على تحريك جماعات الضغط الحقوقية في هذا الجانب يبدو وهماً كبيراً، ناهيك عن تحول ناشطين سياسين وفاعلين إلى مجرد وسطاء بين "العالم" ودولهم، بما يسمح باستيعابهم ضمن بيروقراطية المنظمات الدولية، وتحييد فعلهم السياسي الحقيقي.
وعند النظر إلى الحالة الراهنة، يتضح أن التمهيد لها كان في التعامل مع انتهاك حقوق الإنسان بمنطق النوع أو الكم، بما يمكّن من إقامة تفريق بين حالة وأخرى. وبالتالي، لا بد أن ينطلق منطق الرد أو المواجهة من مبدأ رفض الانتهاك، لا قياسه وتصنيفه. وإن الانشغال بإظهار أي نظام على أنه مجرم بحق مواطنيه، ومنتهك حقوقهم، على مرأى من وسائل الإعلام والمجتمعات التواصلية المعولمة، لا ينبغي أن يظل محدد التحرك ضد الانتهاكات، بل لا بد من إعادة الأمر إلى حيزه الداخلي، الدولة والمجتمع والشعب، والانشغال بهم.
إن كانت سورية الشرط الموضوعي الذي جعل الاستثناء في المنطقة ممكناً، وبهذا التوسع والحجم، فإن النظام الحاكم في مصر من مضى في استغلال الحالة إلى مراحل متقدمة. والمنطق المسطح الذي يستخدمه إعلام النظام، ممثلاً بمقولة "أحسن ما نبقى متل سورية أو ليبيا"، تعبير صريح عن هذه الحالة، فكل ما يحصل في مصر مقبول، بوجود نماذج رفعت مستوى الانتهاك حتى صار عادياً ويومياً. ومن مصر يمكن استنتاج أن المنظومة الحقوقية حول العالم ما كان بإمكانها، ولا في واردها، التحرك لإسقاط نظام، أو إحداث ثورة، وغالباً ما جاءت متأخرة على وقع انتصارات الناس أنفسهم في مواجهة نظمهم، حين يتوقفون عن النظر للخارج، ويفكرون في مساحة الفعل خاصتهم فقط.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين