تنزل في ميناء مايوركا. غبش ما قبل الصبح. السفينة وراءك لم تزل تبصق حمولتها من السيارات. سائحة ألمانية تعدّل قبّعتها التي من قشّ فاخر، وتبتسم لخاطرٍ، عبَرَ كسنونو غريب، تحت القشّ. يأخذك الباص معهم، وترى شوارع ناعسة في جمال شفيف. "شفيف" في الغبش؟ أجل، لم تجد كلمة أخرى. تفكّر: صديقك باو ينتظرك ولكن أين لا تعرف.
يتوقف الباص وينزل نصف الركاب في محطة، وتهِمّ أن تنزل معهم، غير أنك، وقبل الوصول لسلّم الباب، تنتبه على تحرّك الباص، وبقاء النصف الآخر، فتتراجع بشنطتك على الكتف، وتجلس. لحظات طويلة، ويقول راكب لجارته الغجرية: استعدي، المحطة الأخيرة.
أين باو؟ للآن لم يتّصل. ثم تندمج ولا تأبه. رغم أن حدوث أي خطأ كان سيزجّك في ورطة. فرقم موبايله غير معروف داخل جهازك. خطوات وترى من الزجاج الأمامي باو مع صديقة، وتتعرّف عليه فيزول القلق.
تنزل ويأخذك بسيارته، والغبش لا يزال، مع الصديقة التي عرفتها فوراً. إنها شريكة أحد حفلات التوقيع في معرض سان جوردي الماضي. لطيفة وبسمرة إيطالية محببة. تمضون، ويبدأ جمال الجزيرة في الوضوح شيئاً فشيئاً. يا لها من وداعة! يا له من جمال شرع يفتّح عيونه. طوال الطريق تتكلمون في الشعر وذكريات برشلونة، وسياسة الاحتلال القحبة.
تطلع الشمس وترى الجمال العتيق أينما أدرت بصرك. ينزل باو في محطة بنزين ويشتري الجرائد ويختار مقهى وتجلسون. أنتم أول الزبائن. في بلادك يسمون هذا "استفتاحاً". النادلة الجميلة الشابة، لا يزال خيط نعاس بين جفونها، رغم حيويتها البادية.
يشير باو لخبر عن زيارتك، ويقرّب الجريدة من يدك. تنظر مجاملة ولا ترى شيئاً، ثم تقومون لتواصلوا الرحلة. تعرف منه ومن لوتشيا أنكم ذاهبون لقريته "كالونجة" أقصى الجنوب. لا يطول الوقت وتصلون. باو يفاجئك بإعداد شقة خاصة لأسبوع إقامتك. الشقة فوق شقة والديه الأرضية. تصعدون الدرج ويكون العجوزان في استقبالك، مرحبيْن، على عادة كل القرويين في العالم.
ينسحب باو ولوتسيا بعدما ملآ الثلاجة بالطعام والعصائر. وبعدما عرّفاك على الشقة الواسعة ورتبا لك حتى ملاية السرير.
ترتّب ملابسك في الخزانة وتعدّ فنجان قهوة، لتأخذه إلى شرفة غارقة في النور. هناك ترى الكنيسة المجاورة، وتقول إن الشعر، حتى لو لم يفعل شيئاً، سوى أن أوصلك لهؤلاء الناس، ولهذه الرقعة من الأرض، لكان هذا يكفي.
قليلة هي المرات التي شكرت فيها ربّة الشعر، وها أنت تضيف لها واحدةً، بانحناءةٍ خفيفة.
(صيف 2014)