"كرة القدم؟ لعبة سهلة وبسيطة للغاية، كل ما عليك أن تملك الكرة وتشعر برجولة في فرض أفكارك على الجميع. أعتبر نفسي من نادي خوانما ليّو، لكني أقل من قدراته بكثير، كذلك أميل إلى جنون بيب رغم أنني لم أخترع شيئاً حتى الآن، يصفنا الآخرون بالرومانسية والحلم والإحساس المرهف تجاه كرة القدم.
لكن لا أسمع هذه الكلمات في بيتي، خصوصاً حينما أقابل زوجتي التي تقول لي دائماً، لماذا يا باكو أنت بعيد كل البعد عن الرومانسية؟ فأخبرها بكلمات موجزة وسريعة: عزيزتي، أنا في قمة الرومانسية، فقط مع كرة القدم!".
هكذا يتحدث فرانسيسكو خيميز مارتن "باكو" عن نفسه، اللاعب السابق والمدير الفني الحالي لفريق رايو فاليكانو الذي صنع اسماً مرموقاً في عالم التكتيك، ووضع ناديه المغمور على خريطة اللعبة الإسبانية خلال السنوات الأخيرة، بعد تقديمه عروضاً راقية نالت استحسان الجميع، العدو قبل الصديق.
نشارة الكرة
الحياة جارفة مثل البحر بلا نهاية، وأمواجها متلاطمة تضرب كل من يواجهها، وكذلك كرة القدم، لذلك يحاول كل شخص الاستفادة من كل دقيقة يعيشها في محاولة صنع شيء مختلف، يعبر فيه عن اعتزازه بنفسه ووجهة نظره في أمور عديدة تدور حوله.
يقول الأديب العالمي نجيب محفوظ عن بداياته وفقاً لرواية الكاتب جورجسيان، كنت موظفاً عادياً أذهب إلى العمل وأعود منه، لي أجري الثابت القليل الذي أعتمد عليه في تسيير حياتي اليومية، مع أوقات الفراغ التي استخدمتها في الكتابة حتى وصلت إلى الهدف المنشود بالنهاية، ويصف ابن الحارة المصرية هذه التفاصيل الصغيرة بنشارة الحياة. والنشارة هي ما تبقى من بقايا الخشب، والطبيعي أن تذهب هذه المخلفات إلى المجهول، لكن الشخص الذكي من يستخدمها في أمور أخرى لصنع تفاصيل أكبر تقود إلى مسار جديد.
ومن لاعب عادي بحقبة التسعينات، انتقل بين مختلف الأندية الإسبانية وحصل على بعض البطولات الصغيرة مع فرق ديبورتيفو وسرقسطة، إلى مدرب مغمور يبحث عن ذاته في دوري الدرجة الثانية الإسباني مع أكثر من فريق، حتى جاءت فرصته التي انتظرها كثيراً، وحصل على مكانة يستحقها بتدريب فريق رايو، أحد أندية الدوري الممتاز في بلاد الماتدور.
لم يترك باكو الفرصة ووجد نفسه سريعاً، وقرر منذ الوهلة الأولى تجربة أفكاره التي آمن بها طوال فترة تدريبه على نطاق أوسع، مع فريق تحت الأضواء، يتابعه جمهور داخل الملعب، مع عدسات الكاميرات وأعين الصحفيين أثناء مواجهتهم لبرشلونة ومدريد وباقي عمالقة الليجا. لذلك يؤكد خيميز أن فاليكانو أعطوه الكثير ومهما فعل لهم فإنه عاجز عن رد الجميل الكبير.
الشخصية الكروية
لا يوجد مدرب فاشل أو ناجح، هناك مدرب جبان وآخر شجاع، والفوز يسجل في صفحات التاريخ لكن طريقة الأداء تظل في عقول وقلوب الناس، الشعوب التي أحبت الكرة من أجل المتعة، لذلك ظهر جيل جديد من المدربين ممن يحاولون وضع بصمتهم الخاصة ونسخ أفكارهم على طريقة لعب فرقهم، لتحقيق الغاية المرجوة في النهاية، ألا وهي صيغة الأسلوب الكروي الذي يُمّيز المدير الفني عن غيره، فيما يعرف في الصحافة الكروية الجديدة باسم الـ Football Style.
لذلك عُرف فريق رايو فاليكانو باللعب الهجومي والجرأة على مواجهة أي خصم، والظهور بصورة الند أمام فرق بحجم عملاقي إسبانيا وأوروبا، وبالتالي أصبحت فلسفة النادي خاصة بالكرة الهجومية واللعب إلى الأمام، وتقديم عروض جميلة على مستوى الأداء، مع استخدام السياسة الاستباقية في فرض الشخصية داخل الملعب مع بداية المباراة حتى نهايتها.
وعلى الرغم من الكرة الجميلة والعروض الرائعة للفريق، إلا أن رايو فاليكانو يتعرض لهزائم مفاجئة في مباريات عديدة، وتأتي النتائج في بعض الأحيان مخالفة تماماً للأرقام والإحصائيات التي تؤكد تفوقه على مستوى الاستحواذ وصناعة الفرص واللعب المنظم من الخلف إلى الأمام، لتكون هذه المشكلة هي نقطة الضعف الوحيدة لنظام خيميز التكتيكي في الملاعب الإسبانية.
طريقة اللعب
فلسفة خيميز هي الهجوم، ومن أجل ذلك يستخدم إستراتيجية التمرير السريع المستمر مع سياسة الضغط العالي على معظم الفرق التي يقابلها، ويلعب فاليكانو بنظام الدفاع المتقدم ورغبة عناصر الهجوم في الحصول على الكرة من مناطق الخصم، لذلك يحاول كل لاعب خنق منافسه قبل أن يخرج بالكرة من الدفاع إلى الهجوم.
وفي سبيل الوصول إلى هذه الأفكار، يلعب النادي الصغير في مدريد بطرق لعب متعددة تدور بين 4-3-3، 4-2-3-1، 4-1-4-1، حسب ظروف كل مباراة ووفقاً لإمكانات وقدرات الفلسفة المقابلة. ويحصل رايو على الكرة بنسبة تتراوح بين 54 % إلى 60 % كمتوسط رسمي خلال مباريات الليجا، مع وجود رباعي دفاعي صريح أمامه لاعب ارتكاز متأخر، في الغالب يكون راؤول بايينا وأمامه المايسترو روبرتو تراشوراس، وبيينو لاعب الوسط الهجومي، خلف ثلاثي أمامي متحرك.
تراشوراس هو حجر الأساس بالنسبة لباكو، لاعب مهاري جداً يعشق الاحتفاظ بالكرة ويعرف متى وكيف وأين يمررها، يهتم بضبط إيقاع المباريات وتغيير النسق في حالات الدفاع والهجوم، لكن يبقى عيبه الأول سراً من أسرار وقوع فاليكانو، لأنه أقل كثيراً بدون الكرة، لذلك من الممكن ضرب فريقه بسهولة حينما يستحوذ المنافس على الجلد المنفوخ بشكل أكبر.
هجومياً، الفريق يصل من العمق والأطراف، مهاجم صريح يجيد التوغل في القنوات الدفاعية، وجناح سريع على الخط ينطلق بشكل طولي، وآخر يدخل في العمق قادماً من الجناح، بابتيستاو في العمق رفقة أكوينو وكاكوتا يميناً ويساراً. ومع كرة التمرير في الوسط، يمتزج الأداء الجمالي خلال المنتصف بالضغط العالي المستمر في الثلث الهجومي الأخير، في محاولة نحو الكمال الكروي من وجهة نظر القائد حليق الرأس.
نقاط الضعف
باكو خيميز مدرب جريء وشجاع، لكن أحياناً يتحول الأمر إلى اندفاع غير مبرر، ويدفع فريقه الثمن غالياً بالتعرض إلى هزائم غير مستحقة ونتائج بعيدة تماماً عن مجريات اللعب وسيناريو اللقاء، لأن المدرب الشاب يضع خطته ويصر على تحقيقها لكن في حالة الخلل، لا يوجد نظام بديل أو خطة طوارئ لمواجهة الأخطاء، وأكبر دليل على ذلك تعرض رايو لبعض الهزائم بنتائج ثقيلة بسبب الإصرار على الطريق نفسه خلال المباراة دون تغيير من الجهاز الفني خارج الخط.
وخلال بعض مواجهات الليجا، يقرر خيميز الضغط المتعصب من الأمام، فيصعد لاعب وسط ليصبح مهاجماً ثانياً على مشارف مناطق الجزاء، وتتحول 4-3-3 إلى 4-4-2 صريحة، فيزداد العبء على منطقة الوسط ويتم ضرب الفريق بسهولة بالمرتدات، بالإضافة إلى صعود رباعي الدفاع بشكل مضاعف، مما يؤدي إلى مزيد من الخطر أثناء لعب الكرات الطولية خلف الأظهر في منطقة أسفل الأطراف.
وهذه السلبيات يعترف بها خيميز الذي تقف أمامه عدة مصاعب بكل تأكيد، خصوصاً على صعيد ضعف قائمة فريقه، والقدرة الشرائية الهزيلة التي لا تساعده في شراء أسماء جديدة ونجوم كبيرة، خصوصاً أن أسلوب الأداء الذي يريده يحتاج دائماً إلى نجوم من العيار الثقيل، لكنه يحاول قدر المستطاع ويستمر في التجديف ضد التيار، أملاً في مواصلة المغامرة وحفر اسمه بين المبتكرين، الحالمين بكرة قدم سعيدة تهدف إلى أعمق نظريات البهجة، في إسعاد الشعوب.