هل يكمن النجاة من عبث هذه الحياة إلا بهدأة الموت؟ لعلّنا لا نجد "إجابة" أبلغ من هذه إذا كنا نحاول فهم قرار الانتحار، أو نقترب من سؤال الموت وهو الأكثر حضوراً في الحياة.
منذ عام تقريباً، طرح شاب سويدي - من أصل جزائري - جوابه هذا على قطار أنفاق في استوكهولم، تاركاً لنا الدهشة وطبقات من الأسى. نتكلم هنا عن المخرج مالك بن جلول (1977 - 2014)، الفائز بجائزة أوسكار سنة 2013 عن الفيلم الوثائقي "البحث عن رجل السكّر".
أَزيدُ من ألف يوم بذلها بن جلول في إعداد هذا الوثائقي، مخرجاً ومصوراً ومعلقاً وكاتباً ومنتجاً وحتى رسّاماً. أفاق فجأة على نفاد موارده، ورفض منتج التلفزيون السويدي أن يواصل تمويله، عجز حتى عن شراء فيلم 8 ميليمتر، فاستخدم هاتف iPhone مزوداً بتطبيق ابتاعه بدولارين. وقد قال بعد ذلك: "إنها تبدو مثل كاميرا سوبر 8".
شغف هذا الشاب النحيل، لفت إليه أنظار المنتج سيمون تشين الذي سبق له أن فاز بأوسكار عن الوثائقي Man On Wire. أقنعه بن جلول برسالة تركها له في مكتبه قائلاً: "لديّ فلم أفضل من الذي صنعته أنت". بُعث إذاً المشروع من جديد، قصة Sixto Rodriguez مغني روك أميركي اشتهِر في جنوب أفريقيا منتصف السبعينيات والثمانينيات، غير أنه لم يكن يعلم بهذا، بل إن أحداً - قبل عرض الوثائقي - لم يسمع به في أميركا قبل الأوسكار أصلاً.
وإن كانت قصة انتهت فصولها تاريخياً نهاية التسعينيات لدى قدوم المغني إلى جنوب أفريقيا، ولقائه أخيراً بمعجبيه الذين ظنّوا طويلاً أنه قضى منتحراً. استطاع بن جلول أن ينفخ في قصة نجاح كانت ستبدو مبتذلة لولا موهبته الفنية وسرديته السحرية.
تمكّن المخرج من الوفاء لروح الحدث، قصة لقاء فنان حقيقي بذاته وجمهوره، واحتفظ لفيلمه بمسافة ضرورية من تشعبات السياسة والأحكام الأخلاقية. كان الناس الحقيقيون والفاعلون هم منبع تدفّق الأحداث وتشابكها، فعمل بن جلول ببراعة نادرة على تكثيفها والدفع بالذروة الدرامية إلى مداها الأقصى حابساً معها أنفاسنا ودموعنا.
وبمجرد خروجه إلى الصالات، استُقبل الوثائقي باحتفاء جماهيري ونقدي لافتيْن. وتوالت الجوائز والمدائح لهذا الشاب الوسيم "قليل الأناقة" كما وُصِف يوماً. وتكلّل هذا النجاح بجائزة أوسكار قبل عامين. كما احتفي به أكثر في السويد، وراح الكثيرون يتوسّمون ميلاد بيرغمان جديد. كانت تلك هي قمة نجاحه. لما سُئِل عن مشاريعه القادمة، أجاب: "سأواصل السفر سعياً وراء قصة جديدة، أو سأشتغل على أفضل اقتراح يصلني في هوليوود، أو ربما سأصبح ضحية جديدة لهوليوود".
وبعد انتقاله للعيش في نيويورك زمناً، عاد إلى السويد بداية عام 2014، ويجزم كل من عرفه وقتها بأنه كان بحال جيدة ولا تظهر عليه أي أعراض اكتئاب. وهي الكلمة التي أجاب بها جوهر بن جلول عندما سُئِل عن سبب انتحار أخيه.
فرضيات كثيرة أطلت برأسها بعد هذا الانتحار "اللامعقول". لعل أكثرها "معقولية" تلك التي أرجعت ذلك إلى فشله في العثور على قصة جديدة، لكن الحقيقة الوحيدة هي أن لا أحد - ولا حتى المقرّبين - يعرفون الدافع الحقيقي.
ولد بن جلول لطبيب جزائري مهاجر اسمه حسّان بن جلول من مدينة قسنطينة وأم سويدية فيرونيكا شيلدت في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول 1977 في إيستاد، ووضع حدّاً لحياته يوم الثالث عشر من مايو/ أيار الماضي.