بعد كل ما جرى

10 يناير 2018
(عمل تركيبي للفنانة البريطانية الباكستانية شاهدة أحمد)
+ الخط -

هاكم هو: التوق الخلاصي، هو مجرد انسداد تاريخي. هاكم هو: من يفكّر وهو داخل العلبة، ليس كمن يفكّر وهو خارجها. هاكم هو: ثمّة عالم مرئي ومحسوس، وعلينا أن نلتزم به مرجعيةً وحيدة. هاكم هو: ما سبق تهويمات على إعادة اكتشاف النار، والدولاب، والماء الساخن، إلخ.

الشعْر جماليٌّ خارج الجدوى؟ هاكم أيضاً: كل ما هو خارج جداول الإحصاء، لا يعوّل عليه.
فكيف يمكنك مواصلة كتابة الأدب وقد برُد المعنى؟ وتغبّش الأفق؟ وانداحت الألوان في بعضها وعلى بعضها؟

قد يقال: هذا أصحّ للفنون. قد يقال: كل مباشرة وكل وضوح، هما مقتل كل فن.
ربما كلام كهذا ينفع ساعة النماء والاسترخاء، أما والبيت يحترق فكيف تكون النجاة الفنيّة، والانقياد لشروط الفن؟

يخيّل لي أننا طوال قرن ويزيد، أسرفنا في استقدام شروط لفنوننا ليست من بيئتنا ولا من ظروفنا، وقد آن الأوان أن ندير لكثير منها الظهر، على أمل التحرر من هذا الإحساس الموجع بالاستلاب والاغتراب.

شيء مؤس أن تظلّ مرجعياتنا غربية، فيما نحن تحت أنياب تاريخهم العاري، بلحمنا العاري.
هم ينظرون إلينا كمّيّاً: محض كتلة مستهلِكة لديها ثروات في باطن وظاهر الأرض. ونحن ننظر إليهم كيفيّاً: نظرةَ المغلوب المفتون بغالبه، كنموذجٍ يُحتذى به، ومثالٍ تُشدّ إليه الرحال والعيون والبطون وصولاً إلى الأحلام في المنامات.

فهل هذا معقول، بعد كل ما جرى؟ وهل يمكن الاستمرار فيه لعقود أو لقرون قادمة؟
وماذا ستكون النهاية؟ نهاية جوارنا المأسوي مع قارّة هي مدشّنة التوحش في الألف سنة الأخيرة، وصولاً للأزمنة الحديثة، في منطقتنا وعبْرَ طولِ وعرضِ العالم؟

مرة أخرى نذكّر من يعودون بمنطقتنا أحقاباً إلى الوراء: التوق الخلاصي هو مجرد انسداد، وعلينا وعليهم أن نبحث جميعاً عن أدوات مناسبة للخروج من النفق والحصْر الدهري ومتواليات القهر.

وإلّا؟ فهو المزيد من الانحدار في قاع لا نهاية له. لم أعد أتألم على جيلنا وعلى أجيال سبقته. أتألم حقيقة حتى سيلان الدمع على الأجيال اللاحقة. يولدون في الخراب ويرثون الخراب. ما ذنبهم هؤلاء غير أنهم ولدوا لآباءٍ كانوا بالصدفة هم نحن؟

نحن راحت علينا ـ بما لنا وما علينا ـ فلماذا تروح عليهم وهم الأبرياء؟
لقد فكرت بالأمر طويلاً، وللأسف، كنت كل مرة أخرج بحل وحيد: الهجرة. ما من نجاة سوى بالهجرة الجماعية.

خلّوها لهم وهاجروا أغلبكم. لكن المصيبة أن قارة التوحش الخشنة ـ وقد تنعّمت الآن ـ تريد أعداداً مقنّنة حسب حاجاتها، ولا تريد شعوباً جرّارة.

هذا أفضل حل عملي توصلت إليه. وهو كما ترون، حل هروبي (ككل حلّ خلاصي)، لمعضلة عظمى، بطريقة السلف.

حقاً، كل إناء ينضح بما فيه، بما فيه إناءُ المثقف العربي. من أين يأتي الأخير بالجديد وهو ـ كما مواطنوه ـ أسير المطحنة السوداء نفسها؟

أعترف: بعد العجز عن الاستقراء الصحيح، سقطتْ فكرةُ التجاوز والاستشراف والتنبؤ، .. إلخ، من قاموسي. صار دفتري كدفاتر جيراني، وعمّال البلدية، لا أزيد عنهم بوصة.

وهو أمر ليس بذلك القدر من السوء، كما يُظن. فكلّنا في الهوى سوا، وجيّد أن يشهد المرء قبل أن يتوكّل جنازةَ النُخب واستقالتها من الأوهام، بعدما استقالت شعوبها من التاريخ. أليس هذا معقولاً لهم ولنا، بعد كل ما جرى؟

المساهمون