ليس بالأمر العَرَضي أن يُساورك الضيق كلما حلّت نُذُر المساء. وأن تعرِض لك أمور وأمور، فلا تستطيع اعتراضها، حتى تكتفي هي فتتركك وراءها وقد أوغل الليلُ شبيهاً بجثّة.
إنها ساعة الزوال الحزينة لنهار سرعان ما ينقضي ماضياً نحو حتفه. ولأنك رهين المحبسين: الجغرافيا والتاريخ، ومنذور لوطأتهما، فكيف الفكاك؟
كلا، ليس بالأمر العرضي ولا بالعرضي أيضاً كل عدم الثقة هذا في عقربَي الساعة، وفي نسيج ما تلبس ويُدعى "ثوب حياتك". فلو كان محتواه غير لما احتجت طول عمرك لما يتعذّر على الإحصاء من عمليات الترقيع.
واحد مثلك (وكم هم عديدون أمثالك)، يُظلم ويُحمّل فوق الطاقة، لو طُلب منه أن يكون غير شِكِل.
كلما حلّ المساء، ضاق النفَس. فأين الفرار والكون كله ـ لا الكوكب الصغير ـ حيطان منفى؟
أيها المنفيون المتفائلون اكسروا أملكم بقليل من الماء!
برحمة جدّنا الذي لا شبيه له وقد كسر قيد زمنه فكسره الزمن.
لم يكن الكون على اتساعه المهول ليسع روحه القلقة، فكيف وسعته عظامه الواهنة وجلده الناشف؟
كلما حلّ المساء، ضاق النفَس. تلك لازمتك، وقد يحدث أن تستجير برمضاء جدّك، من نار الأحشاء، فتسعفك تارة، ولا تفعل طوراً.
ذلك أن الزمان اختلف، حدّ أننا كما قال شاعر كاتلاني:
[نعيش زمن السهم المنطلق، من القوس المشدود إلى الجراح].
دون عزاء.
دون بارقة عزاء، يا أحمد بن عبدالله التنوخي ويا منويل بن فوركانو!
باسم النبريص.. مصلوب بوعيك الشقي. لو كنت ترى المآلات لما عملت علاقة مع ورقة أو قلم. كان المطبوع بسحره الفتان سحبك إلى دوامته، مذ كنت فتى، فاستسلمت. ومع مرور الوقت، تيقّنت أن لا طريق رجعة. تماماً مثلما يحدث مع صبي يتعاطى.
ماركس قال الميثولوجيا كذا. واليوم أنت تقول: كذلك القراءة والكتابة. إن بدآ ـ خاصة الأولى ـ فلا مفرّ منهما إلا بالموت أو العائق الصحي.
أربعون سنة تدخّن بلا فلتر، ومثلها تقرأ وتخربش بلا فلتر أيضاً. أحياناً ينتابك الندم على مقارفة ثلاثتهم، بيد أنك في الأعم سعيد بصحبتهم، وتتمنى دوام هذه الصحبة حتى طلوع النفس.
وفي الحق، لا معنى لوجودك بعيداً عنهم. حتى بالإمكان القول إنك مصلوب وسعيد بالصالب والخشبة! قد يبدو هذا ضرباً من مازوخية، فإن كان كذلك، فقياساً بغيرها من بنات جنسها، فأَنعم بها وأكرم.
أليست أحسن من حياة مسطحة بليدة مكرّرة، يقتلها ويمتصّ خيرها روتين العادة؟
إنّ الوعي خيار بين مئات خيارات أخرى. وسواء هو اختارك أم أنت اخترته، فقد مضى أوان تغييره وتوجيه البوصلة نحو خيار ثان. لا العمر يسمح ولا الظروف ولا الرغبة.
وبعد كل ما جرى للنهر وفيه، تعترف أن الثقافة وفّرت لك حميمية في التعامل مع الوجود البشري. مع ليل الموضوعي، وليل النفْس، إلخ.
مع أنه من حق البعض أن يستنكر: أية حميمية ونحن نتكلّم عن هذا الوجود البشري بالذات؟