13 نوفمبر 2024
بعيداً عن السياسة.. قريباً منها
عندما يكون العالم المحيط بك غارقا في السياسة إلى الأذقان، يصعب عليك، ككاتب، أن تأخذ نفسك بعيدا عنها. في الصباح، تأخذك السياسة حتى قبل الفطور، عينك على الشاشة تقرأ العناوين بسرعة، وأذنك تسترق السمع لصوت مذيع قادم من عالمك الذي يطلقون عليه "العالم الثالث"، وقد أصبح رابعا منذ حين. ترتشف القهوة المرّة، متأملا مرارة الأحداث الجارية هناك، تقرّر أن تنأى بنفسك عن السياسة، ولو دقائق، لكن الصور تصفعك، حتى في برامج المنوعات والأحداث الغريبة. بعض ما يثير الاستغراب هنا لا يثير استغرابك أنت، أنت ابن البيئة التي عرفت الدم والدموع والآلام عقودا، لم تستغرب من صورة بثينة، الطفلة اليمنية الناجية الوحيدة من مجزرة نفذتها طائرات بلد شقيق، قلبه من حجر. قتلت الغارة والد بثينة وخمسة من أشقائها وخالها وآخرين، فيما أصيبت هي بكسور وارتجاج في الجمجمة وتورم العينين، لكن وصول صورتها إلى الشاشات حمل من غدر بها على افتعال واقعةٍ استطاع من خلالها اختطاف بثينة وتغييبها، عسى العالم أن ينسى صورتها.
أنت تعرف أن هناك في عالمنا الرابع ألف بثينة مختطفة، وألف شاب مختطف، صورهن وصورهم لا تصل إلى الشاشات، ولا أحد يسأل عنهن أو عنهم، ولا تجرؤ صحيفة أو محطة محلية أن تنقل، في نشراتها، حوادث خطف، أو تغييب، أو اغتصاب، ربما لأن ثمة خصوما أو حتى جيرانا، أو رفاقا في الحزب هم الذين فعلوا الجريمة. لكن غير مسموح بالإشارة إليهم، لأن ذلك يشكل مسّاً بهيبتهم ومكانتهم.
تتذكر صور غيرها خرجت من عالمنا إلى العوالم الأخرى، فضحت المستور، صورة الطفل غيلان الذي أراد أهله أن ينقذوه من مظالم طغاتنا، لكن البحر الغادر ابتلعه، لولا موجة حنون قذفت به إلى الشاطئ، عسى أن يستعيد حياته، لكنه فارق الدنيا وأهلها، وعندما انتقلت صورته إلى الشاشات، أشاح كثيرون بعيونهم عنها، كي لا تنغص عليهم ساعات أنسهم ومرحهم.
ولعلك تتذكر أيضا صورة الأم الشابة النازحة من الأنبار، والواقفة على طرف جسر بزيبز، تنتظر أن يسمح لها مليشياوي أحمق بالدخول إلى بغداد، والتي لم يبق لها من الدنيا سوى طفلها الذي يريد رشفة ماء. وعندما ووجهت بالرفض، بعدما طال انتظارها، لم تجد بدا من أن تقذف بوليدها في النهر، كي يحيا بقية حياته هناك!
تعاودك المرارة، مرارة القهوة ومرارة الأحداث معا، تترك عالمك، وتستسلم لشريط أخبار وصور قادم من العوالم الأخرى، لربما يسعفك بما يريح أعصابك. تصفعك واقعة بشعة، اغتيال الأخ غير الشقيق لزعيم بيونغ يانغ المتنمر، كيم جونغ أون، بتغطية وجهه عنوة من عميل كوري بمنديل ملوث بالسم، وهو يطوف المطارات، بحثا عن مأوى، كونه يعارض حكم أسرته. وإذ يغضب كثيرون، تستذكر أنت حوادث مماثلة، جرت في عالمك، فقد اعتاد الزعماء الثوريون عندنا تصفية خصومهم بأبشع من هذه الواقعة، ثمّة أسلحة أكثر فتكا، ولا تثير الشكوك، سم الثاليوم مثلا الذي يحقن بإبرة، أو يوضع في شراب، ولعلك تتذكّر أيضا أن الذين ماتوا في عالمنا بفعل أساليب كهذه كانت تقام لهم مراسيم تشييع حافلة، ومواكب عزاء يمشي فيها من ساهم بقتلهم بكل شموخ.
يُرغمك الحنين إلى العودة إلى أخبار عالمك، بحثا عن شيء مختلف، لا يثير السخط لديك، تتلقى خبرا من مصر أن حكومة العسكر التي جاءت بتفويض شعبي (!) أقرّت مشروع قانون يتيح لها سحب الجنسية من مواطنين، يعملون على "تهديد النظام العام للدولة"، أو "تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي"، وأنت تعرف، بخبرتك، أن المقصود هم المعارضون للنظام الذين يرفعون أصواتهم بالنقد أو الشكوى، ويفضحون ما يجري من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، ومن امتهانٍ لكرامة المواطن، ومن قمع لحريته، وتتذكّر أنك من العراق، ولست من مصر، لكنك تعرضت لعقوبة مشابهة، إذ رفض حكام بغداد تجديد جواز سفرك، وطلبوا عودتك إلى البلاد، ويأبى السخط إلا أن يعاودك مصحوبا بشيء من ارتياح، لأنك لست وحدك، فقد أوقعوا هذه المظلمة على مئات، ربما آلافٍ أودت بهم عثرات الدهر في طريقهم.
هكذا تريد أن تكون بعيدا عن السياسة، لتكتشف، في آخر المطاف، أنها تلاحقك، لكن عليك ألا تبتئس، فكثيرون من أبناء عالمك يحيون مثلك.
أنت تعرف أن هناك في عالمنا الرابع ألف بثينة مختطفة، وألف شاب مختطف، صورهن وصورهم لا تصل إلى الشاشات، ولا أحد يسأل عنهن أو عنهم، ولا تجرؤ صحيفة أو محطة محلية أن تنقل، في نشراتها، حوادث خطف، أو تغييب، أو اغتصاب، ربما لأن ثمة خصوما أو حتى جيرانا، أو رفاقا في الحزب هم الذين فعلوا الجريمة. لكن غير مسموح بالإشارة إليهم، لأن ذلك يشكل مسّاً بهيبتهم ومكانتهم.
تتذكر صور غيرها خرجت من عالمنا إلى العوالم الأخرى، فضحت المستور، صورة الطفل غيلان الذي أراد أهله أن ينقذوه من مظالم طغاتنا، لكن البحر الغادر ابتلعه، لولا موجة حنون قذفت به إلى الشاطئ، عسى أن يستعيد حياته، لكنه فارق الدنيا وأهلها، وعندما انتقلت صورته إلى الشاشات، أشاح كثيرون بعيونهم عنها، كي لا تنغص عليهم ساعات أنسهم ومرحهم.
ولعلك تتذكر أيضا صورة الأم الشابة النازحة من الأنبار، والواقفة على طرف جسر بزيبز، تنتظر أن يسمح لها مليشياوي أحمق بالدخول إلى بغداد، والتي لم يبق لها من الدنيا سوى طفلها الذي يريد رشفة ماء. وعندما ووجهت بالرفض، بعدما طال انتظارها، لم تجد بدا من أن تقذف بوليدها في النهر، كي يحيا بقية حياته هناك!
تعاودك المرارة، مرارة القهوة ومرارة الأحداث معا، تترك عالمك، وتستسلم لشريط أخبار وصور قادم من العوالم الأخرى، لربما يسعفك بما يريح أعصابك. تصفعك واقعة بشعة، اغتيال الأخ غير الشقيق لزعيم بيونغ يانغ المتنمر، كيم جونغ أون، بتغطية وجهه عنوة من عميل كوري بمنديل ملوث بالسم، وهو يطوف المطارات، بحثا عن مأوى، كونه يعارض حكم أسرته. وإذ يغضب كثيرون، تستذكر أنت حوادث مماثلة، جرت في عالمك، فقد اعتاد الزعماء الثوريون عندنا تصفية خصومهم بأبشع من هذه الواقعة، ثمّة أسلحة أكثر فتكا، ولا تثير الشكوك، سم الثاليوم مثلا الذي يحقن بإبرة، أو يوضع في شراب، ولعلك تتذكّر أيضا أن الذين ماتوا في عالمنا بفعل أساليب كهذه كانت تقام لهم مراسيم تشييع حافلة، ومواكب عزاء يمشي فيها من ساهم بقتلهم بكل شموخ.
يُرغمك الحنين إلى العودة إلى أخبار عالمك، بحثا عن شيء مختلف، لا يثير السخط لديك، تتلقى خبرا من مصر أن حكومة العسكر التي جاءت بتفويض شعبي (!) أقرّت مشروع قانون يتيح لها سحب الجنسية من مواطنين، يعملون على "تهديد النظام العام للدولة"، أو "تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي"، وأنت تعرف، بخبرتك، أن المقصود هم المعارضون للنظام الذين يرفعون أصواتهم بالنقد أو الشكوى، ويفضحون ما يجري من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، ومن امتهانٍ لكرامة المواطن، ومن قمع لحريته، وتتذكّر أنك من العراق، ولست من مصر، لكنك تعرضت لعقوبة مشابهة، إذ رفض حكام بغداد تجديد جواز سفرك، وطلبوا عودتك إلى البلاد، ويأبى السخط إلا أن يعاودك مصحوبا بشيء من ارتياح، لأنك لست وحدك، فقد أوقعوا هذه المظلمة على مئات، ربما آلافٍ أودت بهم عثرات الدهر في طريقهم.
هكذا تريد أن تكون بعيدا عن السياسة، لتكتشف، في آخر المطاف، أنها تلاحقك، لكن عليك ألا تبتئس، فكثيرون من أبناء عالمك يحيون مثلك.