بغداد إذ تُغيّر ثوبها
إنه فبراير الحزين، فبراير الذي قررت بغداد، في لحظة غفلة من الزمن، أن تُغيّر ثوبها. لم يكن إبريل من عام 2003 التاريخ الأكثر إيلاماً في عمر بغداد، بل العكس. المدن العظيمة لا تموت بالغزو، بل إنها، أحياناً، تجد فيه فرصة لتجديد نفسها، والتخلي عن تركة الماضي الثقيل، كذلك بغداد.
لم تتغيّر بغداد، بعد التاسع من إبريل عام 2003، بل نجحت تلك الأساطيل الخاكية اللون، والتي جاءت من خلف البحار، في أن تعيد إلى بغداد وجهاً آخر، دعك من صور النهب والسلب التي حاول الغزاة، شرقيون وغربيون، إظهارها، فهي لم تكن أكثر من مشهد بسيط على مسرح أحداث كان يتفاعل، ولم تكن أكثر من مشهد سيئ الإخراج، كتبه سيناريست يعاني من عقدة نقص تجاه بغداد وأهلها، ليس إلا.
كان المشهد بتفاصيله أن بغداد، عقب غزوها، انتفضت، رفضت أقلام عراقية وطنية كثيرة أن تطلق عبارة سقوط بغداد على التاسع من إبريل. وفعلاً، كانت بغداد بوجهها الحضاري، حاضرة وبقوة.
حلّ الغزاة الجدد كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، كانت بغداد تبدو وحيدة، المؤسسات معطلة، مراكز الشرطة خالية، غاب رجل المرور، الإشارات الضوئية معطلة. مع ذلك، كانت بغداد تقاوم، أظهرت وجهها الحضاري، قالت لهم لن أموت، كان بإمكانك أن تمشي، من بغداد إلى البصرة جنوباً، تحت جنح الظلام، ولا تخشى سوى من أرتال الغزاة، اختفت حوادث المرور، على الرغم من غياب شرطتها، وتعطل إشاراتها، كان يكفي أكبر تقاطعات بغداد وأهمها أن يقف صبي في الثانية عشرة من عمره لينظم حركة المرور، تطوعاً، ويمتثل لإشاراته الجميع عن طيب خاطر ورضا.
لم تعجب غزاتها، غزاة بغداد، شرقيين وغربيين، تلك المشاهد، وزاد من حدة غيظهم وحنقهم أنها بدأت تقاوم، وتحولت أرتالهم وعرباتهم إلى صيدٍ سهل لمقاومي بغداد. كانوا في حالة صدمة، جعلتهم لا يعرفون ماذا يفعلون، كانوا يتوقعون ويرسمون أن بغداد، قلب العراق، سيموت، سيتوقف، سيتقاتل أبناؤها في ما بينهم، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بقيت بغداد، بأهلها، عيناً تقاوم المخرز.
كانت أخبار المقاومة المسلحة في الفلوجة وغيرها، وعملياتهم ضد الغزاة، يتناقلها أهل الجنوب، ممّن اكتشفوا أنفسهم بعد ذلك بأنهم شيعة، كما كان يتداول مقاطعها كاكا حمه في شمال العراق، الذي سبق له أن اكتشف كرديته، لكنه بقي عراقياً أصيلاً.
كانت صدمة، لم تكن واردة في حسابات الغزاة، والغزاة، هنا، لم يقدموا علينا من غرب الأرض وحسب، وإنما من شرقها. لذا، كان لا بد من فتنة، تكون بحجم تمسك العراقيين بعراقيتهم، بحجم بغداد وتاريخها، بحجم العراق، بحجم هذا النسيج الاجتماعي الذي استعصى على الغزاة، على الرغم من بذور الطائفية التي غرسها الغزاة، ابتداءً من مجلس الحكم الانتقالي، وصولاً إلى ساحات الإعلام الذي كان يقطر سمّاً بين ثنايا أحرفه وكلماته. فكان فبراير الحزين، يوم أن قرر الغزاة أن يستخدموا أكثر أسلحتهم فتكاً، الطائفية بأبشع صورها، فكان المكان سامراء ذات الأغلبية السنية، وأضرحة مقدسة عند الشيعة، فجّرت بطريقةٍ قال عنها يومها وزير الإسكان، جاسم محمد جعفر، إنها متقنة جداً، ومَن فجّر الأضرحة احتاج 12 ساعة لتفخيخ المكان، وهذا ما كان لأي تنظيم أن يقوى على فعله، كون الأضرحة كانت بحماية مغاوير الداخلية، وأحد أبشع الأجهزة الأمنية التي شكلت عقب احتلال العراق.
كان الثاني والعشرين من فبراير يوماً حزيناً أسود، غيّرت فيه بغداد ثوبها، فلقد ارتكبت ميليشيات الدم واحدة من أبشع مجازر التاريخ، حيث قتل في يوم واحد أكثر من 2000 عراقي من أهل بغداد وسكانها، وفجّر وأحرق أكثر من 300 مسجد، ما اضطر آلافاً من أهلها إلى تركها، مرغمين مضطرين، فما عاد في أزقة الرصافة أو كرخ بغداد ما يسرّ، وما عادت "أم العيون السود" تعبر جسور بغداد، غيداء مطمئنة. وهناك، حيث فتنتهم الكبرى، سامراء، صعدت روح أطوار بهجت، الإعلامية التي آمنت بالعراق وطناً واحداً ذا لون واحد.
إنه فبراير الحزين، فمنذ الثاني والعشرين منه عام 2006، وبغداد لبست ثوب حداد، أبَت، مع الأيام، أن تخلعه، فلقد تغيّرت ملامح المدينة، سكنها أناس جدد، لا يشبهون أهلها، وطاف في أزقتها الموت، زائراً لا يمل طرق أبواب بيوتها، فترك ندوباً وندوباً على وجه بغداد الجميل.