هكذا كانت حالنا، نحن البنات الريفيّات الصغيرات، تحت سطوة عادات لم تعرف الرأفة، ولا أولت مشاعرناً وآراءنا أي اعتبار. ربّما هي الحال نفسها بالنسبة إلى بنات كثيرات غيرنا من عائلات أخرى في أجزاء ومناطق عديدة من ريف سورية. ذلك الريف الواسع والمُهمَل، حيث قسوة الحياة وبساطتها الواهية، المحاصرة بثقل التقاليد التي كبّلتنا جميعاً.
غير أنّ أقدارنا تلك بقيت تتأرجح على الحافّة، من دون أن نجد سنداً يحمينا. فكانت سلطة "الدولة" تظهر قبل كلّ شيء في الاعتقال والظلم، كما لو كانا دوريها الوحيدين، ولا دور آخر لها أبداً. كنّا في حصار مزدوج، طويل، تعوّدنا عليه، هكذا ببساطة جلعتنا نتآلف ونتقبّل ما يحدث برضى غريب!
كنّا نعيش في إحدى القرى السورية الساحلية، في تلك السنوات البعيدة، محرومات من أبٍ "أخذه" رجال المخابرات إلى السجن، ولا نعرف متى سيعود إلينا. إنّه الأب السياسيّ اليساريّ الغائب عنّا، نحن بناته المتروكات مع أمّ عليها واجب الحلول محلّه طيلة فترة غيابه، التي لم نكن نعرف متى ستنتهي. في تلك الظروف، حلّت خطبة أختي خديجة، ولم أعرف وقتها، هل كان عليّ أن أفرح أم أبكي!
لم ترفع أختي نظرها عن أرض الغرفة خلال تلك الجلسة غير العادية في بيتنا القديم، بيت أبي الغائب في سجن النظام السوري وأمّي الحاضرة بصحبة عمّي والشيخ. لم ترفع أختي نظرها إلا قليلاً، بقيت ساكنة ساكتة، ولم تتكلّم في ذلك اليوم إلى أحد. ذلك اليوم الذي تنتظره كلّ فتاة، وكل صبيّة حالمة بحياة جديدة مع شابّ تظل تنتظره أو تبحث عنه طيلة حياتها.
كانت عيناها تجوبان داخل قلبها المضطرب. كانت عيناها النافذتين الوحيدتين لفتاة تنتظر أن يحسم آخرون، وإنْ كانوا من أقرب أقربائها، أمراً سيغيّر حياتها على الفور، لأنها ستتحوّل إلى شخص آخر بعد قليل، وستكون لها صفة أخرى، ولن تبقى قريبة في حماية أمّها كما هي الآن.
كانت خديجة، أختي البكر، تلكزُ قدم أمّي بطرف قدمها، فيما رأسها منغمس في النظر إلى بقعة لا تتجاوز ما تراه عيناها ذات الرموش القصيرة. وصوت الشيخ، القاسي المهيب الحضور، الذي سيعقد قرانها على زوجها، يملأ الغرفة خوفاً ومهابة، تقاطعه بحرج وخجل تمتمات عمّي غير المفهومة: "ما به صالح، موظف وآدمي ورايدك".
لم تستغرق استشارة خديجة سوى دقائق قليلة، حين همّ الشيخ بالخروج، وتبعه عمّي مقبّلاً يده ومودِعاً إياه مبلغاً من المال امتناناً على مباركته هذا الزواج. هي دقائق قليلة على الشيخ، وعلى عمّي، فهي بالنسبة إليهما انطوت على شأن بسيط، وربما اعتقدا أنّهما قاما بعمل محمود وجيّد، وينبغي أن تفرح له أختي خديجة، ونفرح نحن معها ولها.
تدمع عينا خديجة ببكاء مخنوق متقطّع، تساندها أمّي بدمعات من دون كلام. سأدرك بعد مرور سنوات، كم كان مكلفاً غيابك يا أبي، حين ترمّلت خديجة بعد أقلّ من سنة على زواجها، لتعود إلى بيتنا أرملة شابة. أسابيع قليلة ستمرّ بعد الخطوبة الخاطفة قبل أن يمتلئ فجأة بيتنا الصغير بضجّة الجيران وغبطة رفيقات الصبا وزغاريد النسوة، وأنا أتلصّص من شقّ الباب لأرى جارتنا نعيمة تمسح دموع أختي، التي كانت تنزع الماكياج الذي أصلحته الجارة مرّات عدّة، بسبب بكاء خديجة المستمر، مع حركات عنيفة مليئة بالقهر والغضب، تنزع فيها وريقات توت لامعة كانت تزيّن ثوبها الأبيض.
أجول بنظري قليلاً في غرفة التراب، فأرى أختي الثانية تضرب رأسها بالحائط، وتبكي تعاسة ما نحن فيه. تزويج أختي قسراً، ونحن جميعاً تحت شبهة العار، سبع بنات وأمّ أميّة وأب غائب بسبب السياسة. ظل ذاك العبء كشبحٍ يطلّ علينا، يرافقنا كظلالنا. لطالما وُجِّهت لنا الإهانات والسباب، لأنّنا "بنات الملحد"، قابلات للانحراف. وظلّ ذاك عبئاً يخنقني ويعذّبني لزمن تلا خروج أبي بسنوات.
تخرج أختي، بكفنها الأبيض ووجهها الجامد وجسدها الأخرس، تمسكها يد عمّي من جهة ويد أمي من الجهة الثانية. زغاريد النسوة تختلط ببكائنا وبكاء مَن أشفق على حالنا. عبَرَ الموكبُ ببطء الشارع الرئيسي الفاصل بين منزل أهلي ومنزل صالح، العريس، الصهر القريب.
كنتُ حافية ومشعّثة الشعر، يغمرني الغبار والبكاء. أتذكّر يداً قوية أمسكت بي ورفعتني فوق زحام البشر، وصوتاً يقول: "خلّوها تفوت، هَيْ خيِّت العروس". للحظات خاطفة، شعرتُ بالرضى والفرح. حصلتُ على مكان قريب في الغرفة الصغيرة حيث كانوا يغنون أمام أختي، وقد التصق بها الرجل الذي سيصبح زوجها بعد ساعات وستصبح أرملته بعد أشهر معدودة.
لا أتذكر وجه صهري صالح. كل ما أذكره، أنّهم كانوا يصفونه بالمهذب والهادئ. مات صالح بسرطان المعدة بعد أشهر قليلة من زواجه من أختي. وهي بقيت وحيدة ببطن منتفخ، سينزلُ طفلاً ميتاً بعد أشهر قليلة.
أتذكّر رائحة بيتها، رائحة أرملة تقتلها الوحدة والشعور الخانق بالتعاسة. أرى خطواتي أنزل ببطء على درج بيتها الذي كنت أصل إليه عبر سطح ودرج الجيران. أرى وجهها يبتسم وتقول لي: "تعي يا خَيّْتي". بيتها النظيف المرتب وحيداً وفارغاً لا يؤنسه أحد. ستغادر خديجة ذاك البيت قبل أن تكمل سنة على زواجها.
نقلت جهاز عرسها إلى بيتنا. كان مؤلّفا من الخزانة والصوفايات والطربيزات. وتلك حاجات جديدة تحوّلت إلى "عزوة" بيتنا الوحيدة. البيت الممتلئ بالبنات مع أخ وحيد يصغرني سنتين. فيما الأب غائب مُعتقَلَ في العاصمة، الشام، والأخ الأكبر غائب في حياته الخاصّة.
ستبدأ مرحلة جديدة من حياتنا، تحلّ فيها الأخت الكبيرة الأرملة محلّ الأم والأب، وتفرض سلطة حديدية علينا مُشرَّبةً بقهرها من حظّها، وعقدة ذنب لا تُفْهَم تجاه موت زوجها وابنها خلال سنة.
سيتوالى على البيت خُطّاب وطلاب زواج كثيرون ترفضهم خديجة لكبر سنّهم، أو لأنهم إما متزوجون أو معدومو الحال. بعد ثماني سنوات ترمُّلٍ، ستتزوّج أختي من رجل عمره قريب من عمرها. وهو كان قد جرّب قبلها زواجاً فاشلاً انتهى بالطلاق، خرج منه بولدين ستربّيهم أختي لفترة مع ابنتها الوحيدة. وسيكون بيت خديجة في العاصمة ملجأً مؤقتاً لي قبل حصولي على سرير معدني في المدينة الجامعية في مدينة المزّة، في تسعينيّات القرن الماضي.
غير أنّ أقدارنا تلك بقيت تتأرجح على الحافّة، من دون أن نجد سنداً يحمينا. فكانت سلطة "الدولة" تظهر قبل كلّ شيء في الاعتقال والظلم، كما لو كانا دوريها الوحيدين، ولا دور آخر لها أبداً. كنّا في حصار مزدوج، طويل، تعوّدنا عليه، هكذا ببساطة جلعتنا نتآلف ونتقبّل ما يحدث برضى غريب!
كنّا نعيش في إحدى القرى السورية الساحلية، في تلك السنوات البعيدة، محرومات من أبٍ "أخذه" رجال المخابرات إلى السجن، ولا نعرف متى سيعود إلينا. إنّه الأب السياسيّ اليساريّ الغائب عنّا، نحن بناته المتروكات مع أمّ عليها واجب الحلول محلّه طيلة فترة غيابه، التي لم نكن نعرف متى ستنتهي. في تلك الظروف، حلّت خطبة أختي خديجة، ولم أعرف وقتها، هل كان عليّ أن أفرح أم أبكي!
لم ترفع أختي نظرها عن أرض الغرفة خلال تلك الجلسة غير العادية في بيتنا القديم، بيت أبي الغائب في سجن النظام السوري وأمّي الحاضرة بصحبة عمّي والشيخ. لم ترفع أختي نظرها إلا قليلاً، بقيت ساكنة ساكتة، ولم تتكلّم في ذلك اليوم إلى أحد. ذلك اليوم الذي تنتظره كلّ فتاة، وكل صبيّة حالمة بحياة جديدة مع شابّ تظل تنتظره أو تبحث عنه طيلة حياتها.
كانت عيناها تجوبان داخل قلبها المضطرب. كانت عيناها النافذتين الوحيدتين لفتاة تنتظر أن يحسم آخرون، وإنْ كانوا من أقرب أقربائها، أمراً سيغيّر حياتها على الفور، لأنها ستتحوّل إلى شخص آخر بعد قليل، وستكون لها صفة أخرى، ولن تبقى قريبة في حماية أمّها كما هي الآن.
كانت خديجة، أختي البكر، تلكزُ قدم أمّي بطرف قدمها، فيما رأسها منغمس في النظر إلى بقعة لا تتجاوز ما تراه عيناها ذات الرموش القصيرة. وصوت الشيخ، القاسي المهيب الحضور، الذي سيعقد قرانها على زوجها، يملأ الغرفة خوفاً ومهابة، تقاطعه بحرج وخجل تمتمات عمّي غير المفهومة: "ما به صالح، موظف وآدمي ورايدك".
لم تستغرق استشارة خديجة سوى دقائق قليلة، حين همّ الشيخ بالخروج، وتبعه عمّي مقبّلاً يده ومودِعاً إياه مبلغاً من المال امتناناً على مباركته هذا الزواج. هي دقائق قليلة على الشيخ، وعلى عمّي، فهي بالنسبة إليهما انطوت على شأن بسيط، وربما اعتقدا أنّهما قاما بعمل محمود وجيّد، وينبغي أن تفرح له أختي خديجة، ونفرح نحن معها ولها.
تدمع عينا خديجة ببكاء مخنوق متقطّع، تساندها أمّي بدمعات من دون كلام. سأدرك بعد مرور سنوات، كم كان مكلفاً غيابك يا أبي، حين ترمّلت خديجة بعد أقلّ من سنة على زواجها، لتعود إلى بيتنا أرملة شابة. أسابيع قليلة ستمرّ بعد الخطوبة الخاطفة قبل أن يمتلئ فجأة بيتنا الصغير بضجّة الجيران وغبطة رفيقات الصبا وزغاريد النسوة، وأنا أتلصّص من شقّ الباب لأرى جارتنا نعيمة تمسح دموع أختي، التي كانت تنزع الماكياج الذي أصلحته الجارة مرّات عدّة، بسبب بكاء خديجة المستمر، مع حركات عنيفة مليئة بالقهر والغضب، تنزع فيها وريقات توت لامعة كانت تزيّن ثوبها الأبيض.
أجول بنظري قليلاً في غرفة التراب، فأرى أختي الثانية تضرب رأسها بالحائط، وتبكي تعاسة ما نحن فيه. تزويج أختي قسراً، ونحن جميعاً تحت شبهة العار، سبع بنات وأمّ أميّة وأب غائب بسبب السياسة. ظل ذاك العبء كشبحٍ يطلّ علينا، يرافقنا كظلالنا. لطالما وُجِّهت لنا الإهانات والسباب، لأنّنا "بنات الملحد"، قابلات للانحراف. وظلّ ذاك عبئاً يخنقني ويعذّبني لزمن تلا خروج أبي بسنوات.
تخرج أختي، بكفنها الأبيض ووجهها الجامد وجسدها الأخرس، تمسكها يد عمّي من جهة ويد أمي من الجهة الثانية. زغاريد النسوة تختلط ببكائنا وبكاء مَن أشفق على حالنا. عبَرَ الموكبُ ببطء الشارع الرئيسي الفاصل بين منزل أهلي ومنزل صالح، العريس، الصهر القريب.
كنتُ حافية ومشعّثة الشعر، يغمرني الغبار والبكاء. أتذكّر يداً قوية أمسكت بي ورفعتني فوق زحام البشر، وصوتاً يقول: "خلّوها تفوت، هَيْ خيِّت العروس". للحظات خاطفة، شعرتُ بالرضى والفرح. حصلتُ على مكان قريب في الغرفة الصغيرة حيث كانوا يغنون أمام أختي، وقد التصق بها الرجل الذي سيصبح زوجها بعد ساعات وستصبح أرملته بعد أشهر معدودة.
لا أتذكر وجه صهري صالح. كل ما أذكره، أنّهم كانوا يصفونه بالمهذب والهادئ. مات صالح بسرطان المعدة بعد أشهر قليلة من زواجه من أختي. وهي بقيت وحيدة ببطن منتفخ، سينزلُ طفلاً ميتاً بعد أشهر قليلة.
أتذكّر رائحة بيتها، رائحة أرملة تقتلها الوحدة والشعور الخانق بالتعاسة. أرى خطواتي أنزل ببطء على درج بيتها الذي كنت أصل إليه عبر سطح ودرج الجيران. أرى وجهها يبتسم وتقول لي: "تعي يا خَيّْتي". بيتها النظيف المرتب وحيداً وفارغاً لا يؤنسه أحد. ستغادر خديجة ذاك البيت قبل أن تكمل سنة على زواجها.
نقلت جهاز عرسها إلى بيتنا. كان مؤلّفا من الخزانة والصوفايات والطربيزات. وتلك حاجات جديدة تحوّلت إلى "عزوة" بيتنا الوحيدة. البيت الممتلئ بالبنات مع أخ وحيد يصغرني سنتين. فيما الأب غائب مُعتقَلَ في العاصمة، الشام، والأخ الأكبر غائب في حياته الخاصّة.
ستبدأ مرحلة جديدة من حياتنا، تحلّ فيها الأخت الكبيرة الأرملة محلّ الأم والأب، وتفرض سلطة حديدية علينا مُشرَّبةً بقهرها من حظّها، وعقدة ذنب لا تُفْهَم تجاه موت زوجها وابنها خلال سنة.
سيتوالى على البيت خُطّاب وطلاب زواج كثيرون ترفضهم خديجة لكبر سنّهم، أو لأنهم إما متزوجون أو معدومو الحال. بعد ثماني سنوات ترمُّلٍ، ستتزوّج أختي من رجل عمره قريب من عمرها. وهو كان قد جرّب قبلها زواجاً فاشلاً انتهى بالطلاق، خرج منه بولدين ستربّيهم أختي لفترة مع ابنتها الوحيدة. وسيكون بيت خديجة في العاصمة ملجأً مؤقتاً لي قبل حصولي على سرير معدني في المدينة الجامعية في مدينة المزّة، في تسعينيّات القرن الماضي.