ارتبط ظهور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المشهد السياسي بمسار التسوية السياسية، وكان أول توصيف عُرف به الرجل أنه "مهندس اتفاق أوسلو"، وتقاطعت هذه الرؤية السلمية التي يتبناها ويؤمن بها أبو مازن مع رؤية النظام السياسي العربي الذي تبنى هو الآخر منذ قمة بيروت في عام 2002 مسار التسوية وتقدم صوبها بمبادرة سلام عربية تطورت حتى باتت تطبيعاً، وبعدما كانت "المبادرة العربية" تشترط إيجاد حل وتسوية للقضية الفلسطينية أصبح المرور لإسرائيل مؤخراً لا يقتضي كل ذلك، وبالتالي لم يعد السلام والتطبيع مع إسرائيل مرتبطين بما يحدث على صعيد القضية الفلسطينية. ومن هنا بدأ ما يشبه التخلي العربي عن فلسطين.
معسكر السلام العربي
المفارقة أن أبو مازن كان الجواد الأوفر حظاً لتوفير مرور عربي آمن باتجاه إسرائيل، ولا سيما أن رؤية الرجل تتقاطع تماماً مع رؤية النظام السياسي العربي من التسوية بخلاف الراحل ياسر عرفات الذي كان قادراً على ضبط إيقاع العلاقات العربية الفلسطينية من جهة والعلاقات العربية الإسرائيلية من جهة أخرى، ويبدو أن أبو مازن يحاول عبثاً استعادة ما كان يفعله الشهيد ياسر عرفات أي توظيف المحددات العربية لتتقاطع مع المصلحة الفلسطينية، لكن وجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي تزامن مع التحولات العربية غير المسبوقة، سواء على مستوى الحكام أو مستوى العلاقات العربية البينية أو مستوى التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية، كلها تطورات أفضت لقطع الطريق عليه فلم يعد المرور لإسرائيل عربياً يقتضي وجود أبو مازن أو حتى حلحلة التسوية والمفاوضات إطلاقاً، بل بات الضغط على أبو مازن للقبول بـ "أبو ديس" عاصمة لفلسطين مطلباً عربياً بامتياز!
يؤخذ على أبو مازن في بعض الروايات الفلسطينية أنه يهرول هرولة باتجاه السلام مع إسرائيل، ربما، فالرجل لا يخفي إيمانه بالسلام والتسوية ورفض المقاومة المسلحة، لكنه في رواية فلسطينية أخرى يبدو كأنه يقاتل ويخوض حربا في مواجهة الضغوطات الأميركية والإسرائيلية والعربية أيضا، وهو ما عبر عنه بشكل واضح وصريح في خطابه أثناء اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد قدم الرجل خطاباً غير مسبوق في ما يتعلق بمسار القضية الفلسطينية، ولكن الخطاب ذاته قد عكس أيضا نوعاً من التمرد الفلسطيني على ما يشبه الوصاية العربية على السلطة الفلسطينية.
والسؤال المشروع والمقصود والواجب هنا: هل تخلى العرب عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس؟ وهو سؤال يرتبط بتساؤل فرعي آخر هل بدأ العرب يعدون العدة لما بعد أبو مازن؟ ولماذا؟ ما الذي حدث. هل تخلى أبو مازن عن التسوية مثلا ولم تعد رؤيته تتقاطع مع الرؤية العربية؟ أم أن رفض أبو مازن الاستجابة للشروط والإملاءات العربية والقبول بما هو دون الحد الأدنى أغضب العرب منه فاستداروا عنه؟
وهل كان خطاب أبو مازن في المجلس المركزي بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير بينه وبين العرب؟ ألا تتقاطع رؤية أبو مازن للسلام مع رؤية الدول العربية؟ إذ لم تكن الدول العربية قد تخلت عن الرجل أو تفكر في ما بعده، فلماذا لا تدعمه إذن وتسانده؟ ولماذا تخلت عنه الآن في مفترق طرق هو الأصعب والأكثر تعقيدا وتُرك أبو مازن بين فكي ترامب ونتنياهو دون ظهير عربي مساند أو مساعد؟ هل فعلا تمرد أبو مازن على المطالب والإملاءات العربية؟
التوتر ومعالم التخلي
لم يكن التوتر بين أبو مازن والدول العربية وليد اللحظة التي أعلن فيها ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، ولم يكن تمرده على الدول العربية مجرد ردة فعل على قرار ترامب، الأمر أخذ يتشكل علنا منذ اللحظة التي طلبت فيها بعض الدول العربية، وتحديدا السعودية ومصر والإمارات اجتراح مصالحة بين أبو مازن ومحمد دحلان والتي رفضها الرئيس الفلسطيني بالمطلق، فردت السعودية في مارس/آذار 2016 بقطع مساعداتها المالية عن السلطة الفلسطينية والبالغة 240 مليون دولار، بمعدل 20 مليون دولار شهريا.
وصمتت السلطة حينها، ولكن بعد سبعة أشهر كشف فريد غنّام المدير في وزارة المالية الفلسطينية أن الرياض لم تفِ بالتزاماتها المالية لدعم السلطة الفلسطينية، حدث ذلك لمجرد رفض الرئيس أبو مازن التصالح مع دحلان، ولم يكن الأمر يتعلق بعاصمة أو صفقة قرن أو تسوية.
لم يكن تمرد أبو مازن حينذاك أقل مما جاء في خطاب المجلس المركزي، ففي رده على الضغط العربي للتصالح مع دحلان قال في كلمة عبر التلفزيون الرسمي الفلسطيني: "كفى الامتدادات من هنا أو هناك، من له خيوط من هنا أو هناك فليقطعها، وإن لم يفعل نحن سنقطعها"، لافتاً إلى أن العلاقات الفلسطينية مع دول العالم مبنية على الاحترام فلا تُملي على أحد موقفاً ولا تسمح لأحد أن يُملي عليها موقفاً. وتابع قائلا: "نحن أصحاب القرار، نحن الذين نقرر، نحن الذين ننفذ ولا سلطة لأحد علينا، اتركونا من العواصم وفلوسها وتأثيرها نريد أن نعمل كفلسطينيين، فهل نستطيع ذلك؟".
وفي كلمته بالجلسة الافتتاحية للدورة الـ28 للمجلس المركزي الفلسطيني كان أبو مازن أكثر وضوحاً وربما أكثر تمرداً إذ قال: "يعرضون علينا حالياً أن تكون أبو ديس عاصمتنا...نحن لا نأخذ تعليمات من أحد، ونقول لا لأي كان، إذا كان الأمر يتعلق بمصيرنا وقضيتنا وبلدنا وشعبنا، لا وألف لا". وتابع بالقول: "إننا لا نتدخل في شؤون الدول العربية، ولن نقبل أن يتدخل أحد في شؤوننا".
"حلّوا عنّا" أكبر من غضب وأقل من تمرد
الأمر ليس توتراً في العلاقة إذن بين أبو مازن والدول العربية "المعتدلة" وليس محاولة عربية لاستبدال أبو مازن، لكنه أعمق من ذلك، بل أخطر، إذا يراد عربياً من أبو مازن أن يُمرر ما لم تستطع إسرائيل انتزاعه، ويبدو أن الضغط العربي وصل إلى ما لا يمكن احتماله، حتى بلغ بالرئيس أبو مازن أن يقول: "حلّوا عنّا" وهي كلمة تعكس ضغطاً وضيقاً أكثر مما تعبّر عن تمرد، وقد همس أبو مازن في كلمته بأن هناك مسؤولا حاول إقناعه 3 مرات بقبول قرار ترامب حول القدس مقابل المال إلا أنه رفض. لم يذكر أبو مازن أسماء، ولكن تصريحاته قد تشير إلى وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أو وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش.
إن جزءاً من العلاقة المتوترة بين أبو مازن والدول العربية له بعد شخصي يتعلق بالدعم العربي لدحلان لمواجهة أبو مازن، ثم تطور الأمر أكثر عندما اقتربت مصر من حركة حماس، وأُجبرت السلطة على الجلوس للمصالحة، وبدا حينها كأن حماس "العدو اللدود" لأبو مازن أقرب إلى مصر من أبو مازن وسلطة رام الله، ولم يشأ أبو مازن تمرير الأمر دون رد فكان أحد ملامح التمرد ذهاب الرجل إلى تركيا للمشاركة في القمة الطارئة التي دعت لها ردا على قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية للقدس، وهو ما لم تفعله الدول العربية التي اكتفت باجتماع على مستوى وزراء الخارجية العرب، واختتم أبو مازن ملمح التمرد عندما قال في خطاب المجلس المركزي "حلّوا عنّا" ولم يكن يقصد غير الدول العربية.
قطعا لا يمكن اختصار ملامح التوتر والتخلي العربي عن أبو مازن في البعد الشخصي فقط، أو وفق تطورات الأحداث الأخيرة والمتعلقة بقرار ترامب، ولكن العرب تركوا أبو مازن وتخلوا عنه في أكثر من موضع، وأكتفي بملمح واحد هنا حدث في قمة الكويت المنعقدة في مارس/آذار عام 2014 وهي القمة الخامسة والعشرين والتي ترك فيها الرؤساء العرب أبو مازن وحيدا لمواجهة المطالب الأميركية التي تقول بضرورة الاعتراف بيهودية إسرائيل من أجل الوصول لاتفاق سلام شامل، وقد حاول الرئيس عباس حث المشاركين في القمة العربية التي يحضرها 14 رئيسا عربيا، بإصدار قرار يرفض طلب إسرائيل الاعتراف بـ"يهودية الدولة"، لكن ذلك لم يحدث.
وقالت حينها مصادر مطلعة أن وزير الخارجية الأميركي في حينه جون كيري طلب من المشاركين في القمة العربية عدم التطرق إلى رفض الاعتراف بـ"يهودية الدولة" من قريب أو بعيد، وعدم تضمين بيان القمة الختامي أي إشارة لرفض الاعتراف بيهودية الدولة. وهو ما اعتبره مراقبون تخلياً عنه، وفقداناً للعمق العربي الذي تسعى القيادة الفلسطينية إلى ضمانه، وهو عين ما حدث في قمة الكويت 2014، والتي أفضت للتدحرج الحاصل الآن من تمرير العرب لعدم الاعتراض أو الإشارة لرفض يهودية إسرائيل شجع نتنياهو ليمضي بعيدا حتى باتت القدس عاصمة لإسرائيل.
خيوط التخلي
التقطت إسرائيل خيوط التخلي العربي عن أبو مازن ومررتها وأجادت قراءتها وهو الأمر الذي عبرت عنه مجموعة قراءات إسرائيلية، ما يعني أنه بإمكان إسرائيل التفرد بأبو مازن والسلطة، وهو السيناريو ذاته الذي حدث مع الزعيم الراحل ياسر عرفات عندما ترك وحيدا محاصرا في المقاطعة برام الله، وعندما أراد أن يشارك بكلمة في قمة بيروت 2002 مُنع وقيل حينها إن أسباباً فنية حالت دون الاستماع لكلمة عرفات، وقبل أن ينفض الجمع برزت مبادرة السلام العربية وكأن لسان الحال عربيا يقول إن جزاء إسرائيل لحصار عرفات هو تقديم مبادرة سلام عربية شاملة كاملة، والآن السيناريو ذاته يحدث مع أبو مازن الذي ذهب بعيدا في الرهان على التسوية والسلام وكانت النتيجة صفرية، وعندما اعترض على الإملاء السعودي بأن يقبل "أبو ديس" عاصمة للدولة الفلسطينية أو الاكتفاء بوطن بديل في سيناء، استدار العرب عنه وتركوه وحيدا حتى بلغ الأمر بوزير الأمن الإسرائيلي إفيغدور ليبرمان أن يعلق قائلا لقد تخلى العرب عن أبو مازن.
وقد نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" تعليق ليبرمان على خطاب أبو مازن قائلا: "إن أبو مازن لا يعبر من خلال خطابه عن خوفه على شعبه، إنما عن قلقه على من سيكون خليفته في الرئاسة"، وأضاف في حديث مع قادة كبار الجيش الإسرائيلي إن خطاب أبو مازن يعكس افتقاده للحواس بعد خلافاته مع الدول العربية المعتدلة.
لا يمكن أخذ الرواية الإسرائيلية كلها والبناء عليها، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن استبعادها أيضا، وبالتالي جزء من تبعات العلاقة بين أبو مازن والدول العربية ستوظفه إسرائيل جيدا في تعاطيها وتعاملها مع السلطة الفلسطينية التي فقدت رسميا ظهيرها العربي، حتى بات هذا الظهير جزءا من الضغط على السلطة للاستجابة لكل ما هو مطلوب إسرائيليا ومطروح أميركياً.
إن تخلي العرب هذه المرة عن القضية الفلسطينية عموما، والسلطة الفلسطينية خاصة، لن يفضي لإزاحة أبو مازن مثلا كما أزيح عرفات، ولن يُمهد لاستحضار رئيس فلسطيني بمواصفات عربية قياسية خلفا لعباس أيا كان هذا الخليفة، لكنه يعني بملامحه الحاصلة عربيا تخلياً غير مسبوق سيفضي لتفرد إسرائيل بالقضية الفلسطينية ومكوناتها ويعني ضوءاً أخضر عربياً رسمياً لتفعل إسرائيل ما تريده، لقد ذهبت الدول العربية التي تصفها إسرائيل بالمعتدلة بعيدا في تخليها عن السلطة، أبعد مما تريده أميركا وأبعد مما كانت تتوقعه إسرائيل ووصل حد التلويح بقطع المساعدات المالية العربية تارة، وبشراء الموافقة كما أكد أبو مازن في إشارته لعرض المسؤول العربي الذي تكرر ثلاث مرات تارة أخرى، وأخيرا بالتلويح باستبعاد أبو مازن أو استبداله.
إن التخلي العربي عن أبو مازن أو استبداله أو الضغط عليه عربيا سيفضي إلى تساؤلات فلسطينية مصيرية لا تتعلق هذه المرة بالسلطة وبشخص أبو مازن، لكنها تتعلق بموقف الشعب الفلسطيني وقواه ومقاومته من التخلي العربي عنهم، وستتولد قناعة فلسطينية شعبية عامة مفادها أنه لا يمكن الرهان على الدور العربي والارتهان إليه وقد بات يتماهى لأبعد الحدود مع المطالب الإسرائيلية بل ويتجاوز جزء رئيس من الثوابت الفلسطينية يتعلق بالقدس.
قد يتفهم بعض الفلسطينيين حالة التوتر بين أبو مازن والدول العربية وقد يفهم بعضهم الآخر حالة التقارب ما بين إسرائيل والدول العربية، لكن إذا تعلق الأمر بضغط عربي ليقبل الفلسطينيون بأقل من القدس عاصمة وبأقل من حدود عام 67 كدولة، ستنفجر لديهم ردة فعل غير مسبوقة، لا في وجه إسرائيل فقط، ولكن سيمتد الانفجار حتى في العواصم العربية.