تُعتبر شخصية الرئيس واحدة من محددات صناعة السياسية الخارجية للدولة وهو ما يُعرف بنظرية النسق العقائدي وهي نظرية تُعطي لمعتقدات الرئيس وتوجهاته السياسية عاملاً مؤثراً وكبيراً في صناعة القرارات، ولا سيما ما يتعلق بالسياسة الخارجية للدولة، وتأثير النسق العقائدي للرئيس دونالد ترامب ليس استثناء، فجلّ رؤساء الولايات المتحدة أثّر نسقهم العقائدي على السياسة الخارجية الأميركية، فالرئيس بوش الابن الجمهوري تبنى القوة الصلبة أو الخشنة، في حين تبنى الرئيس باراك أوباما الديمقراطي القوة الناعمة. وهو تبنٍّ لا يخلو من تأثيرات النسق العقائدي الذي انعكس على طبيعة محددات السياسة الخارجية الأميركية في عهد كلّ منهما.
مبدأ ترامب
شكل قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل الحدث الأبرز في مسار تدشين ولايته الرئاسية، وفي معالم سياسته الخارجية، خاصة أن كل من سبقه من الرؤساء تجنبوا تنفيذ القرار الذي أقره الكونغرس في عام 1995، والأهم أن القرار صدر خلال العام الأول من رئاسة دونالد ترامب ولم يلجأ للتأجيل كما فعل من سبقه من الرؤساء، ولم يُبق القرار كورقة رابحة لضمان ولاية رئاسية ثانية، حتى بات السؤال لماذا قرر ترامب الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل؟ وما الورقة التي قد يُلوح بها لضمان ولاية ثانية؟ وما تأثيرات ذلك على خطة ترامب للسلام التي روج لها في زيارته الأولى للمنطقة؟
هل يُعيد الرئيس ترامب ما فعله رونالد ريغان الذي تأثرت السياسة الخارجية في عهده بنسقه العقائدي المتأثر بكون الرجل ممثلاً تلفزيونياً، فدشّن في رئاسته ما عُرف بحرب النجوم، وقد كان سلوكا جديدا في السياسة الخارجية الأميركية حينها، أم أن الرئيس دونالد ترامب يريد إقرار مبدأ جديد في السياسة الخارجية الأميركية تجاه التسوية السياسية عموما والقضية الفلسطينية على وجه التحديد. وما حظ الدوافع الشخصية والأبعاد الدينية وموقعها في القرار؟
حان الوقت
افتتح الرئيس دونالد ترامب خطاب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنه ينظر للعالم بعيون مفتوحة وبتفكير مرن! ثم انتقل ليعلن بداية نهج جديد تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين؛ من دون أن يُعلن ملامح ومحددات هذا المنهج الذي بدأ بإقرار القدس عاصمة لإسرائيل، لكنه يرى أن تأخر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كان خطأ. لذا؛ قرر أنه حان الوقت للاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل.
يعترف ترامب في خطابه أن الرؤساء السابقين وعدوا بذلك (بشأن القدس) خلال حملاتهم الانتخابية، لكنهم فشلوا في الإيفاء بوعودهم. اليوم "أنا أفي بوعودي، أنا رأيت أن اتخاذ هذا القرار يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وفي مصلحة السعي إلى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين".
بعيدا عن إجراء تحليل الخطاب أو اجتراح منهج تحليل المضمون لتفكيك التشابك الحاصل في خطاب ترامب كما ونوعا، فإن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لا يمكن فهمه بمعزل عن البيئة السياسية الداخلية والخارجية، وعليه فمن المهم فهم بيئة القرار عربيا وإسلاميا وفلسطينيا وأميركيا، وهذه فرضية أكثر أهمية من فرضية تحليل الخطاب والوقوف على مفرداته التي تعني وفق مفردات النسق العقائدي للرئيس دونالد ترامب أن الرجل ذهب بعيدا في التمايز عن رؤساء البيت الأبيض السابقين، فالقرار لا يخلو إذن من بعد شخصي أراد ترامب إبرازه من خلال تمرير أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي اتخذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما أقره وذكره في خطابه. وبالتالي البعد الشخصي واحد من أهم الدوافع من دون أن يعني ذلك إسقاط الأبعاد الأخرى والتي من بينها البعد السياسي والديني.
بيئة مفككة
جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ظل بيئة فلسطينية مفككة، ومضى على تفككها عقد كامل من الزمن؛ بيئة مفككة بين حماس وفتح وبين غزة والضفة وبين أبو مازن ودحلان، بيئة تلاشى حضورها من العقل العربي الرسمي والشعبي وبات الخبر الفلسطيني في ذيل قائمة الأخبار والاستحضار، بيئة لم تكن القضية الفلسطينية ومكوناتها من قبل في مثل هذا الموقع وذاك الواقع، واقع يفهمه ترامب ويُجيد توظيفه وقد كان الأمر بالنسبة لترامب مجرد صفقة فنسقه العقائدي لا يتعامل إلا وفق منطق الصفقات، ولا أستبعد غداً استحداث مبدأ في العلاقات الدولية اسمه مبدأ ترامب على غرار مبدأ الرئيس مونرو أو الرئيس ويلسون أو الرئيس إيزنهاور. بفارق أن محددات مبدأ ترامب يعتمد مفهوم الصفقة فقط.
البيئة العربية هي الأخرى ليست أوفر حظا من نظيرتها الفلسطينية إلا في عمر الانقسام وفي حجم الاستدارة إلى واشنطن استرضاء لتل أبيب أو العكس الذهاب لتل أبيب لإرضاء واشنطن، المهم أن هذه الدول العربية لم تكتف باستبعاد القضية الفلسطينية من أجنداتها وحساباتها وأولوياتها، بل قفزت عن ذلك كله وذهبت مباشرة صوب إسرائيل وهذه سابقة، ولم يكن ترامب ليفوت الفرصة من دون أن يُعلن عن الصفقة الصغرى مرورا لصفقة القرن، وإن أحد مقتضيات صفقة القرن هو الإقرار بالقدس عاصمة لإسرائيل، والبقية تأتي تباعا ما دامت البيئة العربية مواتية.
إن إقرار ترامب بخصوص القدس لا ينفصل عن تلميحات نتنياهو وتصريحاته المتكررة التي يتبجح فيها ويتباهى بأنه وثيق الصلة والعلاقة بالدول العربية المعتدلة. حتى بات يُخيل للمرء أن إسرائيل قد باتت رأس الحربة في محور السنة المعتدل برعاية السعودية ومباركة واشنطن. ما الذي يمنع ترامب إذن في ظل بيئة عربية باتت فيها إسرائيل حليفاً وثيقاً من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبمنطق الصفقة فإنها صفقة. لم يكن بمقدور ترامب المتهرب من الضرائب أميركيا أن يتهرب من وعده وتعهده بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل عند أول فرصة تلوح، هكذا بدأت ملامح القرار الذي تجاوز الصفقة ليصبح ضرب مجموعة عصافير بحجر واحد.
توظيف الإرهاب
قرار ترامب لم يهبط بالمظلة، بل مرّ بمراحل طبيعية كان من أهمها استدعاء مكافحة الإرهاب، وهو استدعاء عانت منه القضية الفلسطينية منذ عهد بوش الابن، وتحديدا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ووظفته إسرائيل جيدا في مواجهتها أحداث انتفاضة الأقصى، ووصفت ما تفعله من جرائم ضد الشعب الفلسطيني بأنه جزء من مكافحة الإرهاب، ترامب أعاد السيناريو لكن بطريقة مختلفة عندما وصف المقاومة الفلسطينية أثناء قمة الرياض بأنها إرهاب، وخصّ حركة حماس بالوصف، وبعدما مر الوصف عربيا بكل أريحية، انتقل ترامب لمرحلة أكثر تقدما، وهي مرحلة إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، مع ضمان بقاء التعاون الاستخباراتي العربي مع إسرائيل كما هو، ما دام الجزء الأساسي منه مكافحة الإرهاب، ولا مانع من توسيع المصطلح إلى الحد الذي يسمح بإدخال فصائل المقاومة الفلسطينية في التوصيف إذا اقتضى الأمر ورغبت إسرائيل.
واليوم توظف واشنطن البيئة العربية للإقرار بالقدس عاصمة لإسرائيل، وغدا ستوظف إسرائيل البيئة العربية ذاتها لتمرير دولة غزة، وكلاهما؛ القدس عاصمة لإسرائيل، وغزة دولة لفلسطين، مجرد متطلبات للمرور إلى صفقة القرن التي بموجبها ستصبح إسرائيل اللاعب الرئيس في خريطة المنطقة ومحدداتها. ولا سيما بعدما أجهض عربيا حق الفلسطينيين في مواجهة الصفقة بوصف مواجهتهم مسبقا بالإرهاب.
وسيط صفقات
دونالد ترامب رجل صفقات وافتتح عهده بالإعلان عن صفقة القرن التي بموجبها تتلاشى القضية الفلسطينية نهائيا، وتصبح إسرائيل حليفا استراتيجيا وممولا وداعما لكل مقومات النهضة العربية المزعومة، وإن كانت القدس عاصمة لإسرائيل أول مراحل صفقة القرن، فإن إنهاء ملف القضية الفلسطينية وتصفيتها هو المرحلة الثانية، ولم يكن تزامن قرار ترامب مع وعد بلفور ومرور مائة عام عليه مجرد مصادفة؛ فترامب يكمل ما بدأه بلفور قبل قرن من الزمان. مع فارق أن ترامب أعلن أنه يرعى ترتيب دعوة رسمية من السعودية لزيارة نتنياهو الرياض بشكل علني، في حين كان وعد بلفور بشكل سري. وبمنطق الصفقة فإنه لم يكن ممكنا إهدار هذا الاختراق الإسرائيلي الحاصل عربيا من دون تمرير القدس عاصمة لإسرائيل مع ضمان الانتقال من التطبيع إلى التحالف.
مدافع مفترض
إن قرار ترامب لا يخلو إطلاقاً من الحسابات الشخصية المغلفة بالأبعاد الدينية، وبمنطق الصفقة فإن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يداعب أحلام الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية والتي تعد الأكبر في العالم على الإطلاق، وبحسب العديد من الإحصاءات فإنَّ عدد أتباعها يفوق حتى عدد اليهود المقيمين في إسرائيل. ويجيد ترامب توظيف المعطيات، فلا يخلو أي خطاب له من ذكر اليهود، بل يُقدِّم نفسه مدافعاً مفترضاً عن مصالحهم. وفي خطابه في مؤتمر منظمة اللوبي الصهيونية المحافظة "لجنة الشؤون الأميركية الإسرائيلية العامة" شدَّد ترامب على أنَّ القدس هي "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي" وأنَّه يعمل بالنيابة عن اليهود. حتى أنه تحدث عن ابنته إيفانكا، الحامل بـ"طفل يهودي". وقال إنَّ هذا الطفل سيكون سعيدًا أيضًا بكون القدس عاصمة لإسرائيل.
مبدأ ترامب
شكل قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل الحدث الأبرز في مسار تدشين ولايته الرئاسية، وفي معالم سياسته الخارجية، خاصة أن كل من سبقه من الرؤساء تجنبوا تنفيذ القرار الذي أقره الكونغرس في عام 1995، والأهم أن القرار صدر خلال العام الأول من رئاسة دونالد ترامب ولم يلجأ للتأجيل كما فعل من سبقه من الرؤساء، ولم يُبق القرار كورقة رابحة لضمان ولاية رئاسية ثانية، حتى بات السؤال لماذا قرر ترامب الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل؟ وما الورقة التي قد يُلوح بها لضمان ولاية ثانية؟ وما تأثيرات ذلك على خطة ترامب للسلام التي روج لها في زيارته الأولى للمنطقة؟
هل يُعيد الرئيس ترامب ما فعله رونالد ريغان الذي تأثرت السياسة الخارجية في عهده بنسقه العقائدي المتأثر بكون الرجل ممثلاً تلفزيونياً، فدشّن في رئاسته ما عُرف بحرب النجوم، وقد كان سلوكا جديدا في السياسة الخارجية الأميركية حينها، أم أن الرئيس دونالد ترامب يريد إقرار مبدأ جديد في السياسة الخارجية الأميركية تجاه التسوية السياسية عموما والقضية الفلسطينية على وجه التحديد. وما حظ الدوافع الشخصية والأبعاد الدينية وموقعها في القرار؟
حان الوقت
افتتح الرئيس دونالد ترامب خطاب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنه ينظر للعالم بعيون مفتوحة وبتفكير مرن! ثم انتقل ليعلن بداية نهج جديد تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين؛ من دون أن يُعلن ملامح ومحددات هذا المنهج الذي بدأ بإقرار القدس عاصمة لإسرائيل، لكنه يرى أن تأخر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كان خطأ. لذا؛ قرر أنه حان الوقت للاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل.
يعترف ترامب في خطابه أن الرؤساء السابقين وعدوا بذلك (بشأن القدس) خلال حملاتهم الانتخابية، لكنهم فشلوا في الإيفاء بوعودهم. اليوم "أنا أفي بوعودي، أنا رأيت أن اتخاذ هذا القرار يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وفي مصلحة السعي إلى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين".
بعيدا عن إجراء تحليل الخطاب أو اجتراح منهج تحليل المضمون لتفكيك التشابك الحاصل في خطاب ترامب كما ونوعا، فإن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لا يمكن فهمه بمعزل عن البيئة السياسية الداخلية والخارجية، وعليه فمن المهم فهم بيئة القرار عربيا وإسلاميا وفلسطينيا وأميركيا، وهذه فرضية أكثر أهمية من فرضية تحليل الخطاب والوقوف على مفرداته التي تعني وفق مفردات النسق العقائدي للرئيس دونالد ترامب أن الرجل ذهب بعيدا في التمايز عن رؤساء البيت الأبيض السابقين، فالقرار لا يخلو إذن من بعد شخصي أراد ترامب إبرازه من خلال تمرير أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي اتخذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما أقره وذكره في خطابه. وبالتالي البعد الشخصي واحد من أهم الدوافع من دون أن يعني ذلك إسقاط الأبعاد الأخرى والتي من بينها البعد السياسي والديني.
بيئة مفككة
جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ظل بيئة فلسطينية مفككة، ومضى على تفككها عقد كامل من الزمن؛ بيئة مفككة بين حماس وفتح وبين غزة والضفة وبين أبو مازن ودحلان، بيئة تلاشى حضورها من العقل العربي الرسمي والشعبي وبات الخبر الفلسطيني في ذيل قائمة الأخبار والاستحضار، بيئة لم تكن القضية الفلسطينية ومكوناتها من قبل في مثل هذا الموقع وذاك الواقع، واقع يفهمه ترامب ويُجيد توظيفه وقد كان الأمر بالنسبة لترامب مجرد صفقة فنسقه العقائدي لا يتعامل إلا وفق منطق الصفقات، ولا أستبعد غداً استحداث مبدأ في العلاقات الدولية اسمه مبدأ ترامب على غرار مبدأ الرئيس مونرو أو الرئيس ويلسون أو الرئيس إيزنهاور. بفارق أن محددات مبدأ ترامب يعتمد مفهوم الصفقة فقط.
البيئة العربية هي الأخرى ليست أوفر حظا من نظيرتها الفلسطينية إلا في عمر الانقسام وفي حجم الاستدارة إلى واشنطن استرضاء لتل أبيب أو العكس الذهاب لتل أبيب لإرضاء واشنطن، المهم أن هذه الدول العربية لم تكتف باستبعاد القضية الفلسطينية من أجنداتها وحساباتها وأولوياتها، بل قفزت عن ذلك كله وذهبت مباشرة صوب إسرائيل وهذه سابقة، ولم يكن ترامب ليفوت الفرصة من دون أن يُعلن عن الصفقة الصغرى مرورا لصفقة القرن، وإن أحد مقتضيات صفقة القرن هو الإقرار بالقدس عاصمة لإسرائيل، والبقية تأتي تباعا ما دامت البيئة العربية مواتية.
إن إقرار ترامب بخصوص القدس لا ينفصل عن تلميحات نتنياهو وتصريحاته المتكررة التي يتبجح فيها ويتباهى بأنه وثيق الصلة والعلاقة بالدول العربية المعتدلة. حتى بات يُخيل للمرء أن إسرائيل قد باتت رأس الحربة في محور السنة المعتدل برعاية السعودية ومباركة واشنطن. ما الذي يمنع ترامب إذن في ظل بيئة عربية باتت فيها إسرائيل حليفاً وثيقاً من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبمنطق الصفقة فإنها صفقة. لم يكن بمقدور ترامب المتهرب من الضرائب أميركيا أن يتهرب من وعده وتعهده بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل عند أول فرصة تلوح، هكذا بدأت ملامح القرار الذي تجاوز الصفقة ليصبح ضرب مجموعة عصافير بحجر واحد.
توظيف الإرهاب
قرار ترامب لم يهبط بالمظلة، بل مرّ بمراحل طبيعية كان من أهمها استدعاء مكافحة الإرهاب، وهو استدعاء عانت منه القضية الفلسطينية منذ عهد بوش الابن، وتحديدا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ووظفته إسرائيل جيدا في مواجهتها أحداث انتفاضة الأقصى، ووصفت ما تفعله من جرائم ضد الشعب الفلسطيني بأنه جزء من مكافحة الإرهاب، ترامب أعاد السيناريو لكن بطريقة مختلفة عندما وصف المقاومة الفلسطينية أثناء قمة الرياض بأنها إرهاب، وخصّ حركة حماس بالوصف، وبعدما مر الوصف عربيا بكل أريحية، انتقل ترامب لمرحلة أكثر تقدما، وهي مرحلة إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، مع ضمان بقاء التعاون الاستخباراتي العربي مع إسرائيل كما هو، ما دام الجزء الأساسي منه مكافحة الإرهاب، ولا مانع من توسيع المصطلح إلى الحد الذي يسمح بإدخال فصائل المقاومة الفلسطينية في التوصيف إذا اقتضى الأمر ورغبت إسرائيل.
واليوم توظف واشنطن البيئة العربية للإقرار بالقدس عاصمة لإسرائيل، وغدا ستوظف إسرائيل البيئة العربية ذاتها لتمرير دولة غزة، وكلاهما؛ القدس عاصمة لإسرائيل، وغزة دولة لفلسطين، مجرد متطلبات للمرور إلى صفقة القرن التي بموجبها ستصبح إسرائيل اللاعب الرئيس في خريطة المنطقة ومحدداتها. ولا سيما بعدما أجهض عربيا حق الفلسطينيين في مواجهة الصفقة بوصف مواجهتهم مسبقا بالإرهاب.
وسيط صفقات
دونالد ترامب رجل صفقات وافتتح عهده بالإعلان عن صفقة القرن التي بموجبها تتلاشى القضية الفلسطينية نهائيا، وتصبح إسرائيل حليفا استراتيجيا وممولا وداعما لكل مقومات النهضة العربية المزعومة، وإن كانت القدس عاصمة لإسرائيل أول مراحل صفقة القرن، فإن إنهاء ملف القضية الفلسطينية وتصفيتها هو المرحلة الثانية، ولم يكن تزامن قرار ترامب مع وعد بلفور ومرور مائة عام عليه مجرد مصادفة؛ فترامب يكمل ما بدأه بلفور قبل قرن من الزمان. مع فارق أن ترامب أعلن أنه يرعى ترتيب دعوة رسمية من السعودية لزيارة نتنياهو الرياض بشكل علني، في حين كان وعد بلفور بشكل سري. وبمنطق الصفقة فإنه لم يكن ممكنا إهدار هذا الاختراق الإسرائيلي الحاصل عربيا من دون تمرير القدس عاصمة لإسرائيل مع ضمان الانتقال من التطبيع إلى التحالف.
مدافع مفترض
إن قرار ترامب لا يخلو إطلاقاً من الحسابات الشخصية المغلفة بالأبعاد الدينية، وبمنطق الصفقة فإن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يداعب أحلام الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية والتي تعد الأكبر في العالم على الإطلاق، وبحسب العديد من الإحصاءات فإنَّ عدد أتباعها يفوق حتى عدد اليهود المقيمين في إسرائيل. ويجيد ترامب توظيف المعطيات، فلا يخلو أي خطاب له من ذكر اليهود، بل يُقدِّم نفسه مدافعاً مفترضاً عن مصالحهم. وفي خطابه في مؤتمر منظمة اللوبي الصهيونية المحافظة "لجنة الشؤون الأميركية الإسرائيلية العامة" شدَّد ترامب على أنَّ القدس هي "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي" وأنَّه يعمل بالنيابة عن اليهود. حتى أنه تحدث عن ابنته إيفانكا، الحامل بـ"طفل يهودي". وقال إنَّ هذا الطفل سيكون سعيدًا أيضًا بكون القدس عاصمة لإسرائيل.