بين التغريبتين السورية والفلسطينية
السكون، والاكتفاء بالتفرج، أو حتى القبول بالذل، والطاعة العمياء، مع تغييب العقل الإنساني، وغيرها من العوامل ساهمت في احتضار الأمة قديماً، وشكلت "معادلة الغربة"، أو "الموت السلبي" للمجتمع، إذ لا يمكن التسليم بأن حضارة الإسلام يمكن أن تموت، أو تفنى، مع ما تحمله بداخلها من قيم روحية قابلة لبث الحياة في الجسد من جديد.
البحث في خلفيات ما حدث تاريخياً يقود بالضرورة للبحث في معادلة بقاء الأمة على المستوى الفردي، وبالتالي الاجتماعي، والمحافظة على كيان الدولة/الأمة، ولقد رتبت الشريعة الإسلامية هذه المقاصد في معادلة سماها علماء الشريعة "المقاصد الخمسة"، وهي مرتبة بحسب سلم الأولويات (حفظ الدين، الحياة، العقل، النسل، المال)، هذه التوليفة هي عكس ما اتجه له عمل الناس في زماننا.
المعادلة السابقة لا يمكن أن تختل، أو تخل بحال المجتمع، بل يجب أن تنعكس إيجاباً أو سلباً عليه طبقاً لتطبيقها على الواقع، وهي، بهذه الصيغة، تتضمن جملة من المسؤوليات والتبعات، ما يجمع بينها ويضعها في إطاره الصحيح هو "التوازن"، وتقديم الأولى فالأولى، وفق فقه الواقع دون الإخلال بمصلحة "الجماعة".
ومن خلال ما نعايشه، يومياً، على أرض الواقع، نجد الافتقار للسبل المثلى للتعاطي مع المعادلة، بل إن هناك حالة إلغاء واضحة لجزء كبير منها، على حساب ثنائية "المال/ الحياة"، سبب الخلل في ميزان القوى، لصالح الأقدر "مادياً" أو عدةً.
هذه المزاوجة بين الصورة الحاصلة في فلسطين وسورية من الصعب التفريق بينها، ولعل ارتباط القضيتين لا ينصب على البعد الجغرافي والتاريخي فحسب، بل إن قيم الإسلام ومعتقداته تصبغها بالطابع المشترك، والنتيجة الواحدة قطعاً، على أن هذا الترابط لا يمكن بشكلٍ تجزئته.
الفائدة من دراسة المسار العسكري والسياسي الذي مرّت به القضية الفلسطينية، وفهم ما يحيط بها من سياسيات عربية ودولية، يضعنا أمام الصورة الحقيقية لنتائج السياسات تجاه الثورة السورية، المقاربة بين الواقعين ضرورة لقراءة المشهد بوضوح، غير ذلك يعتبر فراراً ودفناً للرؤوس في التراب.
دفعتني هذه الصورة للمقارنة بين حالتين تاريخيتين، النكبة الفلسطينية، والثورة السورية، وما قدمتاه من نتائج على الصعيد الإنساني، كان أبرزها "الشتات".
"الشتات" القسري حالة لا يمكن أن أتحدث عنها، لكن الهروب من الواجب هو عين الفشل، والخيبة التي يعيشها شبابنا، وإن كانت قبل سنوات الثورة موجودة، إلا أنها تكتفي بفقد الكفاءات والعقول، أما اليوم فالباب مفتوحٌ للجميع، من دون أن نفكر من المستفيد من رحيلنا عن المشهد؟
ما أصاب القضيتين هو الهروب من مرارة الموت والفاجعة إلى الشتات، ولعل بعضهم لم يدرك أن الهروب من الموت غربة، وبأن الغربة شكلٌ آخر للموت.
لا أستطيع الحديث عن "الغربة"، لكن، أتفهم ما تحمله سنواتها ولياليها.
القهر والظلم الواقعان على هذين الشعبين تحديداً، وعلى مجمل الشعوب العربية المسلمة واحد، لكن طرق المواجهة غالباً ما تختلف في ضوء الواقع والظروف، وإن كان إدراك حتمية التغيير واضحة يؤمن بها الغالبية.
الإيمان بالوسيلة العسكرية، أو الاكتفاء بالتفاوض السياسي هو ما انقسم عليه أصحاب القضيتين، في وقت كان من الضروري العمل وفق قاعدة "الذراعين"، العسكرية كمقدمة قوية لفرض القوة والطرح السياسي، مع إدراك حقيقة أن ما يحدث، في الحالتين، هو صراع بقاء ووجود، وأضيف أنه في الحالة السورية ميلاد أمة بلا ريب.
عرض التلفزيون السوري وأجهزة الإعلام العربية قبل سنوات الكثير عن معاناة الفلسطينيين في غربتهم، وحاكتها بصورة لطالما أحسسنا بالألم بداخلنا، كان من الأعمال الدرامية مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، لم نكن لنصدق يومها أن الشعب السوري سوف يعيش التفاصيل نفسها، من حيث الموت، التهجير، الخوف، الجوع، التعذيب، التهجير القسري والطوعي.
في المقابل ومع تحول الحرب الدائرة في سورية إلى نزاعٍ مسلح بعد سلميته، أكسبه الصبغة "الجهادية" شاء من شاء وأبى من أبى، ما يؤكد هذا التحول هو التمترس الطائفي لجميع مكونات الشعب، وما ظاهرة المؤيدين السنة إلا حالة "غربة" عن واقعهم.
رحلة الموت يرويها الناجون بكل تفاصيلها كأنك أمام قصصٍ من نسج الخيال، مع ما يعتري المتحدث من ارتعاش ولذة انتصار الوصول، في مزيجٍ غريبٍ من المشاعر.
آثر بعضهم الخروج وترك دوره، لتزداد الفجوة عمقاً وشرخاً آخر في المجتمع السوري، وخللاً في معادلة "المقاصد الشرعية".
إن تجاوزنا أولى سنوات الثورة، على ما حملته من صدمة، وعرجنا على ما أصابنا في السنة الأخيرة من كوارث اجتماعية وإنسانية تكاد تأخذ بالألباب، والأرقام خير دليل وأكثر مصداقية في مثل هذه الحالات:
إحصائية ضحايا جرائم النظام السوري من منتصف مارس/آذار 2011 وحتى 31 أكتوبر/تشرين أول 2014
الشهداء الموثقون: 130.01. عدد الجرحى التقريبي: فوق 205.890. عدد المعتقلين التقريبي: فوق 265.085 (يشمل معتقلين خرجوا). عدد المفقودين التقريبي: فوق 102.595. اللاجئون خارج: فوق 3.854.440 . النازحون داخل: فوق 8.180.000.
التراجع في الحراك السلمي كان الحدث الأبرز، مع ما رافقه من ممارسات أفقدت الثورة حاضنتها الشعبية في بعض المناطق، الأدعى للاستغراب أننا بقينا نراوح في مكاننا وتوقفنا عند إفراز الثورة لطواغيت جدد، وتنظيمات إرهابية، وأخرى مشكوك بولائها. ولا بأس أن نكرر ما قلناه مراراً إن الفوضى هذه حالة منطقية تحصل مع كل تغيير، وعند كل مقاومة للتغير، هناك من يسميها "الثورة المضادة"، في سورية، نشأت الأخيرة من أبناء الثورة أنفسهم، حين ضاع الهدف وفقدنا البوصلة.
في الحالة الفلسطينية، بقي العدو واحداً، والتف الناس حول هدفهم، بينما انتقلنا من مرحلة إلى أخرى، متجاوزين المراحل التي يجب أن تسبق فكرة بناء الدولة وصورتها وبنيتها، وحتى طبيعتها الحضارية والثقافية.
الكل هنا قدم مشروعه، وهو حقٌّ مشروع، لكنه عمل وفق برنامجه الخاص، فتصادمت الرؤى، وبدل أن تذهب إلى طاولة الحوار، انتقلت إلى حلبة صراع عسكري هامشي، سببه ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، كما يفسر ذلك بعضهم. وتبقى الناس متعطشة للسكون والخلاص من الحالة التي بلغناها، ولا يخفى على أحد أن هناك بوادر ثورة في صفوف المؤيدين، وإن أعتقد أنها حالة تمرد، فقد النظام قدرته على السيطرة عليها، إذ إن اعتماده منصب على طغمة من العصابات التي تسانده في حربه، والواضح أنها ونتيجة طبيعتها التنظيمية وثقافتها قابلة للتمرد عند الشعور بالخطر، أو القوة، إلا أن مصالحها حتى اللحظة لم تنفك عن الارتباط بالنظام، ولنا أن نتأكد من كثرة حالات السرقة، وازدياد الرشى على الحواجز، مع العصيان في حال الطلب من هؤلاء الانتقال إلى القتال في جبهاتٍ مشتعلة مثل "القلمون، الغوطة الشرقية، درعا" وغيرها.
الانتصارات العسكرية التي حققها الثوار على الأرض كانت مهمة واستراتيجية بكل تأكيد، لكنها كانت متفرقة، لم تصل إلى مد جسور توحيد الجبهات، لبدء معركة دمشق الحاسمة. وفي كل الأحوال، لا يمكننا أن نتحدث عن المعارك العسكرية، فلغتها تحتاج للمتخصصين، ولها تكتيكاتها التي تلعب دوراً في التقدم والتراجع، ولنا أن نبارك جهود المجاهدين المخلصين.
في البحث عن حل نستمر بالعمل، وندعو كل القوى الثورية لتوحيد الصف الإعلامي السلمي، والاقتراب من تطلعات الناس التي خرجنا لنرفع عنهم الظلم، ولنكسر كل طاغوتٍ صنمٍ تاجر بدماء الناس، كيف السبيل؟
وحدهم الناس الواقفون على الحياد، والذين لم يحسموا موقفهم بعد هذه السنوات الطويلة، هم العنصر الحاسم، عبر التفاعل الحقيقي مع الثورة على الأرض، وليس عبر النقد في "الدكاكين" والأماكن المغلقة، ليس عبر الهجرة نحو الموت، فراراً من الموت، فما يثير الاشمئزاز أن تهرب من الحرب إلى البحر في رحلةٍ شبحُ الموتِ فيها أكثر اقتراباً من الأرواح والناجي من كتب له عمرٌ جديد، إلا أنه يخرج إلى أسر الغربة.
لم أقصد استعراض سلسلة من الأحداث، بل هي صرخة لإنهاء حالة الغربة عن الواقع، وإعمال الفكر، فالقادم وإن كان خيراً بإذن الله، إلا أن بين ذلك فتنة اسمها "التطرف" أذهبت أفئدة الناس.
مهما تشبهنا بما يحصل في فلسطين، فإن المصاب في سورية عظيم بل ويستهدف ضرب القضيتين معاً، والتكالب على الأمة صريح، تحت راياتٍ طائفية، وأخرى غربية صليبية من واجبنا جهادها.
ما تختزنه المأساة السورية، اليوم، من آثار البؤس الوجداني، وأصداء آهاته المترامية في الأنحاء، يفوق أضعاف ما يختزنه تاريخ البشرية من آثار البؤس الاقتصادي والاجتماعي.