تحت تأثير تغير المناخ، شهدنا في لبنان والمنطقة تغيرات كبيرة لناحية الطقس وكميات الأمطار التي هطلت وفترة فصل الشتاء التي طالت. كل ذلك لم يخل من كوارث أصابت الإنسان في اقتصاده الزراعي والاجتماعي. أما اليوم، فنحن مقبلون على صيف قد يكون متمادياً بحرارته وطول موسمه، وهو موسم تتخلله الحرائق في الغابات والأحراج. فكم سيكون عدد هذه الحرائق وكم سيطول أمدها وما هي المساحات التي ستلتهمها النيران؟ ما أقوله ليس تشاؤماً بل تحسباً لما قد يحصل وشحذ أذهان أصحاب العلاقة من مسؤولين ومشرفين ومكافحين لكي يستعدوا لمواجهة المصائب والتقليل من أثرها على الاقتصاد الزراعي والغطاء الأخضر السياحي والغابات التي تلعب أدواراً كبيرة في تصفية الهواء ومده بالأوكسيجين وسحب ثاني أوكسيد الكربون منه.
وحرائق الغابات تؤثّر على الطيور وتصيب البيض والفراخ في الأعشاش، لأن الحرائق تحدث عموماً بدءاً من شهر يونيو/ حزيران، وتمتد حتى نوفمبر/ تشرين الثاني لتصيب الطيور، وهي في فترة رعاية الصغار التي تشمل شهر يونيو وحتى بدايات سبتمبر/ أيلول. تشكل هذه الحرائق تهديداً للطيور في لبنان بلد الغابات، التي تتعرض بالفعل للتوتر بسبب فقدان الموائل وتغير المناخ والتلوث وعوامل أخرى.
عدد الطيور التي تقتل من جراء الحرائق في موسم التفريخ يفوق عدد تلك التي تأتيها الحرائق بعد انتهاء التفريخ في أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني. وما ذلك سوى بسبب إتيان النار على الأعشاش بما فيها من بيض وفراخ. أما الطيور التي تهرب من المكان، فإنها تذهب إلى أماكن أخرى حيث تواجه الصعاب بسبب المنافسة في هذه الأمكنة على الأكل والماء والأرض مع الطيور التي كانت موجودة فيها قبل مجيء الهاربين من النار. وحتى لو لم تكن هناك منافسة، فإن الطيور الهاربة غالباً ما تكون قد استنشقت دخان الحرائق المميت الذي يملأ رئتيها ويرديها ميتة في أماكن بعيدة عن النار. هذه النيران قد لا تصيب الطيور البحرية حيث لا توجد غابات ولكنها حتماً ستصيب الطيور المهاجرة التي اعتادت أن تنزل لترتاح وتأكل وتنام في عدد من المحطات على درب هجرتها التي تبلغ آلاف الكيلومترات. وأثناء عبورها تتطلع إلى الأماكن التي كانت تنزل فيها سابقاً فتجدها محروقة، فتضطر لتكملة الهجرة من دون راحة أو مبيت، أو الحصول على طاقة غذائية، الأمر الذي يجعل البعض منها يتهاوى ويموت.
الأمر لا يقتصر على موت الطيور حرقاً أو تسمماً بسبب الدخان، أو إرهاقاً من السفر المتواصل، بل يتعدى ذلك إلى فقدان الموائل التي يبحث عنها كل نوع من أنواع الطيور سواء من أجل التعشيش أو الغذاء. صحيح أن الحرائق الطبيعية هي علامة صحية للأجهزة البيئية، لكن الدراسات العلمية تدل على تزايد هذه الحرائق خلال السنوات الأخيرة لتصل إلى نحو 200 حريق في السنة، تأتي على نحو 1500 هكتار من الغابات والمراعي العشبية في لبنان. وهذا أمر مخيف إذا ما استمرت الحرائق في تزايد، لأن ذلك سيقضي حتماً على الغابات والأحراج والتنوع البيولوجي بما فيه الطير والحيوان، وستنجرف التربة وتختفي الأشجار المعمرة ذات التجاويف، التي يلجأ إليها العديد من الطيور، وسيغلب التصحر على البيئة الطبيعية في لبنان ويختفي الجمال.
إنني أكتب ما أكتبه لأننا على أبواب موسم الحرائق، لعلنا نأخذ الحيطة منذ الآن، بدلاً من اتخاذ الإجراءات الارتجالية، كي نخفف من تأثير الحرائق على الموائل والتنوع البيولوجي والماء والهواء. وربما نصل في الوقت ذاته إلى القدرة التي توجد عند بعض الدول المتقدمة، والتي تقوم بتحليل دور النار في تشكيل تركيبة الغابات والأحراج وتكوينها، وتقييم خصائص النار المختلفة مع علاقتها مع نباتات الغابات. لكي تتم بعدها إدارة الحريق بحكمة إلى درجة يصبح معها استخدامه، أي الحريق، كأرخص وسيلة لإدارة الغابات.
*اختصاصي في علم الطيور البريّة