"حسناء" اسم مستعار لفتاة في الثالثة والأربعين من العمر، جميلة نحيلة بشوشة وحزينة في آن واحد. تردد دائما عبارة "الزواج مكتوب" لتجيب عن أسئلة جاراتها الفضوليات عن موعد زواجها الذي تنتظره منذ سنين ولم يأت بعد. "ربما لن يأتي" تقول حسناء.
تعمل حسناء منذ خمس عشرة سنة أستاذة للغة العربية في معهد بأحواز العاصمة التونسية. تمتلك سيارة وتتقاسم شقة بوسط العاصمة مع زميلتها التي تصغرها بعشر سنوات. "أعامل تلاميذي بلطف"، تقول حسناء، وتضيف "لكنهم لا يهدأون أبدا، يسببون لي الصداع ولكني أرى في وجوههم الشقية ملامح أبنائي الذين لم أنجبهم وربما لن أنجبهم".
تعلو القتامة محيا حسناء حين يقودها الحديث إلى موضوع الإنجاب، فتتحدث بمرارة "يؤرقني هذا الموضوع كثيرا، لا أعرف كم من الوقت تبقى لي قبل أن أفقد فرصتي في الإنجاب نهائيا، لم يعد يعنيني أن يكون لي زوج بقدر ما يهمني أن أصبح أما".
تراقب حسناء أطفال الحارة بنظرة حالمة. تتابعهم بنظراتها وهم يركضون ويملأون المكان صراخا. تحول الحلم لديها إلى عملية حسابية وإلى ساعة رمل تركض حباتها نحو القاع تسابق الزمن.
لدى سؤالها عن أسباب تأخر زواجها أعادت حسناء السبب لتعنت عائلتها منذ حصولها على عمل، أن تتزوج رجلا بنفس مستواها العلمي والمهني. وقد مرت السنوات دون أن تنجح في إقناع عائلتها بتجاوز الأمر.
واعتبرت أن "الرجل العربي يبحث دائما عن الفتيات العاملات المتعلمات والأصغر سنا، والأجمل أيضا، حتى أن البعض منهم يشترط وزنا أو طولا معينا في المرأة التي سيتزوجها، وهي أمور تجاوزتها بلدان العالم المتقدم ولازالت تؤذي المرأة العربية وتحكم عليها بالوحدة".
وتعاني من أزمة تأخر الزواج نحو مليونين وتسعمائة ألف تونسية، حسب آخر الإحصائيات التي أصدرها الديوان التونسي للأسرة والعمران البشري، والذي كشف أن نسبة تأخر الزواج بين التونسيات فاقت الـ60 في المائة.
ولا تفضل التونسيات استخدام عبارة "عانس" لاعتبارات نفسية واجتماعية أهمها استخدام البعض لهذا اللفظ للتقليل من شأن الفتاة رغم نجاحها على المستويات العلمية والعملية.
كما أن ارتفاع معدلات تأخر الزواج، أصبح موضع تندر على مواقع التواصل الاجتماعي من طرف بعض الذكور الذين يرون في مغالاة الفتاة التونسية في فرض شروط مجحفة على الذكور، سببا رئيسا للمشكلة.
وفي هذا السياق، توضح أستاذة علم الاجتماع، نائلة دبيش، أن أسباب تأخر الزواج لدى الفتيات مختلفة، وبعضها أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية أيضا.
وتقول لـ"العربي الجديد" "يعتمد الزواج في الدول العربية عموما على منطق العرض من طرف الذكر والقبول أو الرفض من طرف الأنثى. هذا الأمر يجعل المرأة العربية الطرف الذي يبقى في حالة انتظار العرض الذي قد يأتي وقد لا يأتي، وقد تصاحبه شروط مبالغ فيها أحيانا. وهذا المنطق يجعل الرجل العربي في مأمن من العنوسة نظرا لقدرته على تقديم عرض الزواج مهما بلغ من العمر واحتمالات قبول عرضه متوفرة دائما".
وتضيف "على عكس الرجل، قد تقضي المرأة العربية وقتا طويلا في انتظار هذا العرض دون أن يأتي، وقد تتنازل عن عدد من شروطها وأحلامها من أجل إتمام الزواج دون جدوى، وهذا الأمر يتنافى مع ظروف الزواج بالبلدان المتقدمة، التي تقوم على القرار المشترك".
وتشير دبيش إلى أن "الأسباب الاقتصادية هي أساس المشكلة، فارتفاع نسب البطالة وغلاء المعيشة دفع بالشباب إلى العزوف عن الزواج في انتظار تحسن ظروفهم المادية. كما أن تفكير أغلب الشبان العاطلين في الهجرة ضاعف أعداد المتزوجين بأجنبيات من أجل الحصول على وثائق العمل بالدول الغربية. ومن المهم أن نذكر أيضا أن الأحداث السياسية التي عرفتها تونس منذ الثورة فاقمت مشكلة البطالة والمشاكل الاقتصادية وضاعفت أعداد المهاجرين".
وينص الدستور التونسي الجديد، في الفصل السابع منه، على أن "الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع وعلى الدولة حمايتها". إلا أن الحكومات المتعاقبة على تونس منذ المصادقة على الدستور لم تول مسألة مساعدة الشبان على إنشاء أسر أية أهمية.
وتترجم الاحتجاجات التي عرفتها البلاد مؤخرا تواصل تهميش حقوق الفئات الشابة وتهاون الجهات المعنية كوزارة الشباب ووزارة التنمية ووزارة الأسرة والمرأة في وضع مشكلة العنوسة على طاولة النقاش، خصوصا أن بعض الخبراء في علم الاجتماع أصبحوا يحذرون من تأخر زواج الرجال في تونس، بعد أن تحول عزوفهم عن الزواج إلى عجز عن الإيفاء بتكاليفه.
كذلك، تحدثت الأخصائية في علم الاجتماع، سهام الجلاصي، وهي آنسة في السابعة والثلاثين من العمر، لـ"العربي الجديد" عن دراستها لمشكلة تأخر الزواج بحكم اختصاصها، وكحالة تعيشها أيضا وتسبب لها العديد من المشاكل النفسية، حسب تعبيرها.
تقول سهام إن "حالة الألم النفسي التي تلازم الفتاة التونسية بعد بلوغها سن الثانية والعشرين تتأتى عادة من حجم المضايقات التي تمارسها عليها العائلة في البداية لمحاولة إجبارها على الزواج، ثم من الزملاء في العمل والمحيط الخارجي في وقت لاحق حتى يتم إلصاق صفة العنوسة بها عند بلوغها سن الثلاثين، لتلازمها هذه الصفة كعار تتحمل تبعاته، رغم أنها مدركة أنها ليست المذنبة".
وبحسب الأخصائية "يضاف إلى ذلك محاولات الأهل المتكررة تزوجيها لأي شخص حتى وإن لم تقبله عاطفيا. ليبقى أهم مشكل يعترض الفتيات متمثلا في الرغبة في الإنجاب. مشاكل الإخصاب التي تصيب الفتاة فوق سن الثلاثين كثيرة، إضافة إلى الشعور الغريزي بالرغبة في الأمومة وما يترتب عليه من مشاكل نفسية دفعت عديد الفتيات اللواتي يعانين من هذه المشكلة في تونس إلى الانتحار".
اقرأ أيضا:فوبيا الزواج.. عراقيون لم يغادروا عزوبيتهم