02 نوفمبر 2024
تحولاتٌ تُنكرها قوى "تقدّمية"
يصطدم الجيل العربي المخضرم، في هذه الآونة، بمتغيرات سلبية عاصفة، يقترن فيها تفكّك النظام العربي الرسمي بالتدخلات الثقيلة لأطراف إقليمية ودولية، وبتصدّعات اجتماعية عميقة، يتراجع فيها مفهوم الشعب وأواصر الوطنية والمواطنة، لتحل محلها روابط الطائفة والقبيلة والجهوية، وما يستتبع ذلك من أولويات فئوية، ومن حالات استقطاب و"تنافس". وعلى الرغم من أن هذه التطورات لا تشلّ الدول والمجتمعات العربية بالقدر نفسه، إلا أنها تلقي بظلالها على مطامح التقدم الاجتماعي هنا وهناك. وإلى درجةٍ بات معها التماسك الاجتماعي، والاحتفاظ بالحدّ الأدنى من التجانس والتماسك، يمثل إنجازا وعلامة صحةٍ باعثةٍ على التفاؤل.
واللافت بعدئذ أن هذه التحوّلات السلبية التي يشتدّ تأثيرُها مع ارتفاع وتائر الاستبداد، ومع تفشّي الفقر والبطالة والفساد، لا تستوقف كثيرا "القوى الحية والتقدمية"، إذ يجري، في الغالب، اختزال المشكلات الجسيمة الناشئة والمتفاقمة، بالتأشير إلى ثنائية الأصولية والإرهاب تحديا أول ورئيسيا يواجه الدول والمجتمعات. أما بقية المشكلات الهيكلية التي تعصف بروابط المجتمعات، وبالروابط بين الدول، وانكشافها أمام التدخلات الخارجية المتعدّدة، فهي لا تستوقف قوميين ويساريين، يُؤثرون الإقامة على خطابات مراحل مضى على بعضها أكثر من نصف قرن، مع احتساب التحوّلات السالبة مجرّد أعراضٍ خارجية طفيفة، لأمراضٍ أصيلة، تتعلق بالتفاوت الطبقي والاستتباع للغرب. وسوى هذه الآفة الكبيرة، فإنه لا يحدث شيء جوهري، أو ذو بال، باستثناء الأصولية والإرهاب. بمثل ذلك يفكر يساريون قدامى، وقد أورثوا هذا التفكير لأجيالٍ لاحقة تنهل من النبع نفسه، وتستسهل تبسيط المشكلات واختزالها وتحويرها، كي تتطابق مع مسطرة التفكير الخالدة.
والملاحظ أن الشطر الأكبر من ممثلي هذه الفئات القومية واليسارية الذين رطنوا نصف قرن وأكثر بالاحتكام إلى الجماهير، والنطق باسمها، واعتبارها المرجعية الكبرى، وربط التحرّر
والتقدّم ربطا مباشرا بتحقيق مطالب الجماهير، وبضمان بلوغ غاياتها وتحقيق مصالحها، هؤلاء هم أنفسهم من يضربون صفحا عن ظاهرة الربيع العربي ودروسها (ظاهرة خروج الناس إلى الشارع على الرغم من المخاطر للإمساك بمصيرها). ويعتبر بعضهم أن هذه الظاهرة ما هي إلا خريف أو شتاء أو مؤامرة، وتستحقّ أن يُسدل عليها الستار، ويطويها النسيان، والتعامل معها كأنها لم تقع. هذا الاغتراب الذي يكاد يصل إلى حد الانفصال عن الواقع، وبناء واقع افتراضي بديل عنه، أو مضاد له، يجد له تفسيرا في أوهام الفكر الثوري (الفكر الذي في الأذهان وعلى رؤوس الأقلام، وقد يسمّى أو لا يسمّى نظرية ثورية) الذي يتقدّم في الأهمية على الواقع المادي والحسي، وتحوّلاته وأهمية التفاعل معه، والتقاط معانيه الظاهرة والثاوية، بعد أخذ العلم به.
وقبل موجة الربيع العربي، ومنذ أواخر القرن الماضي، شاع حديث الديمقراطية وتمكينها، والفصل بين السلطات، وهو حديث انضم إليه قوميون ويساريون إلى جانب الديمقراطيين والليبراليين. ومن المفارقة أنه قد تم الإقلاع عن هذا الحديث، بعد موجة الربيع العربي، وذلك بعد أن ذهبت الجماهير بعيدا في غيّها، وتجرّأت على الخروج من دون استئذان أصحاب الوحي الثوري، وبغير التسلح بنظرية ثورية، فحقّ على هذه الجماهير الرجم واللعنة. وذلك ينسحب على الموقف من التعقيدات التي تكتنف حال الدول والمجتمعات، والتي يجري النظر إليها باستخفاف، باعتبار التعقيدات لا تطمس الصراع الطبقي، ولا مشاريع الهيمنة الإمبريالية، حتى لو انشطر مجتمعٌ كبير، مثل المجتمع العراقي، ولأول مرة في تاريخه، إلى شطرين طائفيين، فسوف يقال حينئذ إن الكادحين العراقيين لا طائفة لهم سوى طائفة الكدح، وإن زعماء الطوائف تجمعهم مصالح النهب، وإن الفيصل هو في مدى الاقتراب أو الابتعاد عن "الإمبريالية الأميركية وأدواتها".
أما تفكّك النظام العربي الرسمي، وما يتصل به من اتساع دائرة التدخلات الخارجية، ومن تهتّك مفهوم الأمن الجماعي، ومن إدارة الظهر لجامعة الدول العربية، بعد العمل على إضعافها وتفريغها من كل محتوى، فإنه يُنظر إليه ثمرةً للتدخلات الأميركية والإسرائيلية. وإنه لا أسف، في جميع الأحوال، على ما يسمّى النظام العربي وجامعته، حتى لو نشبت حروبٌ داخل الكيان العربي، أو خرجت مشكلة اللاجئين واللجوء، فهذه مجرد أعراض للالتحاق بأميركا والغرب، وباعتبار أن شيئا مهما لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي. وبما يملي التمسّك بخطاب ذلك الزمان، وبوصلته الهادية، فالمثقف الحقيقي والثوري لا يتغير!
وإذ احتفظت إسرائيل حقا بدورها كيانا عنصريا متوحشا قامعا وجود شعب آخر، هو صاحب الأرض، ما يوجب الاحتفاظ بموقف مناهضتها بكل الوسائل المشروعة، والحفاظ على رفض التطبيع معها، إلا أن أمراض الداخل العربي، الرسمية والاجتماعية، يتحمّل الواقع الداخلي المسؤولية عن نشوئها وتفاقمها، كأمراض الاستبداد والفساد، وتشظي المجتمعات إلى طوائف وقبائل وجهويات. ومن باب دفن الرؤوس في الرمال، يتم القفز عن العوامل الذاتية في متوالية التخلف والتفتيت والاحتراب، وردّ كل شيء إلى الشيطان الأميركي وتابعه الإسرائيلي.
ومع الإقرار بأن تغيّرا جوهريا لم يطرأ بعد على السياسة الخارجية الأميركية، على الرغم من مظاهر انسحاب وانكفاء، عبّر عنها كل من الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب، إلا أن قوى الهيمنة في العالم أخذت تتسع، وتشمل روسيا وإيران، ولم تعد قاصرة على أميركا، وهو ما يرفض بعضهم تصديقه، جرياً على سياسة إنكار الواقع.
إنه ليستحق التنويه في هذا المعرض، مدى ما تنبري له قوىً تصف نفسها بأنها حيّة وتقدمية،
من سعيٍ مضمرٍ ومعلنٍ إلى جعل الرأي العام في حال من "التطبيع" مع تحولاتٍ سلبية، وذلك بالتقليل من أهميتها واستصغار شأنها، وحتى القفز عنها، وقد تم العثور على مستجدٍّ واحد بعينه دون سواه، هو صعود الأصولية والإرهاب، وذلك للتدليل على إصغاء هذه القوى لتحولات الواقع، وما يحفل به هذا التحول من ردّة فكرية. والأصولية التي يفهمها هؤلاء هي التي تنتمي إلى المكون الإسلامي السنّي وحده، أما الأصولية الأخرى التي تجهر بالانتماء إلى مكوّن إسلامي آخر( شيعي) فهي أصولية تقدّمية (لاهوت تحرّر) أو تكاد تكون كذلك! ولهذا، لا يمانع يساريون في خوض المواجهة مع أصوليةٍ بذاتها وإرهابٍ بعينه، بطريقةٍ تسمح لطهران، ومليشياتها متعدّدة الجنسيات، بالإفادة منها لتعظيم التمدّد الإيراني في المنطقة، علما أن الأصولية، بنسختها المولّدة للإرهاب، هي بالفعل مشكلة حقيقية وجسيمة، تهدّد المجتمعات من داخلها، وتشوّه صورة المسلمين في الخارج أيما تشويه وتستحق الكفاح المتواصل ضدها، إلا أن هذه المشكلة، على أهميتها الكبيرة، ليست الوحيدة، كما يصوّر يساريون هنا وهناك، ومن الخطل التفكير بمحاربتها بالإجراءات الأمنية فقط، أو بمعزل عن مواجهة منظومة الطغيان والفساد، وتجديد مناهج التعليم والوقوف ضد أشكال التدخلات الخارجية، أيا كان مصدرها، وكذلك خارج المواجهة الحازمة مع التوحش الإسرائيلي.
واللافت بعدئذ أن هذه التحوّلات السلبية التي يشتدّ تأثيرُها مع ارتفاع وتائر الاستبداد، ومع تفشّي الفقر والبطالة والفساد، لا تستوقف كثيرا "القوى الحية والتقدمية"، إذ يجري، في الغالب، اختزال المشكلات الجسيمة الناشئة والمتفاقمة، بالتأشير إلى ثنائية الأصولية والإرهاب تحديا أول ورئيسيا يواجه الدول والمجتمعات. أما بقية المشكلات الهيكلية التي تعصف بروابط المجتمعات، وبالروابط بين الدول، وانكشافها أمام التدخلات الخارجية المتعدّدة، فهي لا تستوقف قوميين ويساريين، يُؤثرون الإقامة على خطابات مراحل مضى على بعضها أكثر من نصف قرن، مع احتساب التحوّلات السالبة مجرّد أعراضٍ خارجية طفيفة، لأمراضٍ أصيلة، تتعلق بالتفاوت الطبقي والاستتباع للغرب. وسوى هذه الآفة الكبيرة، فإنه لا يحدث شيء جوهري، أو ذو بال، باستثناء الأصولية والإرهاب. بمثل ذلك يفكر يساريون قدامى، وقد أورثوا هذا التفكير لأجيالٍ لاحقة تنهل من النبع نفسه، وتستسهل تبسيط المشكلات واختزالها وتحويرها، كي تتطابق مع مسطرة التفكير الخالدة.
والملاحظ أن الشطر الأكبر من ممثلي هذه الفئات القومية واليسارية الذين رطنوا نصف قرن وأكثر بالاحتكام إلى الجماهير، والنطق باسمها، واعتبارها المرجعية الكبرى، وربط التحرّر
وقبل موجة الربيع العربي، ومنذ أواخر القرن الماضي، شاع حديث الديمقراطية وتمكينها، والفصل بين السلطات، وهو حديث انضم إليه قوميون ويساريون إلى جانب الديمقراطيين والليبراليين. ومن المفارقة أنه قد تم الإقلاع عن هذا الحديث، بعد موجة الربيع العربي، وذلك بعد أن ذهبت الجماهير بعيدا في غيّها، وتجرّأت على الخروج من دون استئذان أصحاب الوحي الثوري، وبغير التسلح بنظرية ثورية، فحقّ على هذه الجماهير الرجم واللعنة. وذلك ينسحب على الموقف من التعقيدات التي تكتنف حال الدول والمجتمعات، والتي يجري النظر إليها باستخفاف، باعتبار التعقيدات لا تطمس الصراع الطبقي، ولا مشاريع الهيمنة الإمبريالية، حتى لو انشطر مجتمعٌ كبير، مثل المجتمع العراقي، ولأول مرة في تاريخه، إلى شطرين طائفيين، فسوف يقال حينئذ إن الكادحين العراقيين لا طائفة لهم سوى طائفة الكدح، وإن زعماء الطوائف تجمعهم مصالح النهب، وإن الفيصل هو في مدى الاقتراب أو الابتعاد عن "الإمبريالية الأميركية وأدواتها".
أما تفكّك النظام العربي الرسمي، وما يتصل به من اتساع دائرة التدخلات الخارجية، ومن تهتّك مفهوم الأمن الجماعي، ومن إدارة الظهر لجامعة الدول العربية، بعد العمل على إضعافها وتفريغها من كل محتوى، فإنه يُنظر إليه ثمرةً للتدخلات الأميركية والإسرائيلية. وإنه لا أسف، في جميع الأحوال، على ما يسمّى النظام العربي وجامعته، حتى لو نشبت حروبٌ داخل الكيان العربي، أو خرجت مشكلة اللاجئين واللجوء، فهذه مجرد أعراض للالتحاق بأميركا والغرب، وباعتبار أن شيئا مهما لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي. وبما يملي التمسّك بخطاب ذلك الزمان، وبوصلته الهادية، فالمثقف الحقيقي والثوري لا يتغير!
وإذ احتفظت إسرائيل حقا بدورها كيانا عنصريا متوحشا قامعا وجود شعب آخر، هو صاحب الأرض، ما يوجب الاحتفاظ بموقف مناهضتها بكل الوسائل المشروعة، والحفاظ على رفض التطبيع معها، إلا أن أمراض الداخل العربي، الرسمية والاجتماعية، يتحمّل الواقع الداخلي المسؤولية عن نشوئها وتفاقمها، كأمراض الاستبداد والفساد، وتشظي المجتمعات إلى طوائف وقبائل وجهويات. ومن باب دفن الرؤوس في الرمال، يتم القفز عن العوامل الذاتية في متوالية التخلف والتفتيت والاحتراب، وردّ كل شيء إلى الشيطان الأميركي وتابعه الإسرائيلي.
ومع الإقرار بأن تغيّرا جوهريا لم يطرأ بعد على السياسة الخارجية الأميركية، على الرغم من مظاهر انسحاب وانكفاء، عبّر عنها كل من الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب، إلا أن قوى الهيمنة في العالم أخذت تتسع، وتشمل روسيا وإيران، ولم تعد قاصرة على أميركا، وهو ما يرفض بعضهم تصديقه، جرياً على سياسة إنكار الواقع.
إنه ليستحق التنويه في هذا المعرض، مدى ما تنبري له قوىً تصف نفسها بأنها حيّة وتقدمية،