تحوّلات الأفكار

08 فبراير 2020
+ الخط -
قيمة الأفكار أحياناً لا تكمن فقط في تطبيقها أو اعتناقها، بل في تعلّقها بلاوعي الإنسان، حتى لو لم يكن يستسيغها، ما يجعله يعود إليها مضطراً من حينٍ إلى آخر، بفعل مروره بتجربةٍ أو نقاشٍ ما، على وقع سؤال جوهري يطرحه على نفسه "ماذا لو كانت هذه الفكرة صحيحةً، بناء على هذا النقاش أو هذه التجربة؟". والأهم في هذه القيمة أن الأفكار لم تعد متباعدةً وبطيئةً زمنياً، بل مكثّفة ومتسارعة بفعل التطوّر الإعلامي والتقني، وهو ما يسمح للعالم اليوم مثلاً بالتحدّث عن فيروس كورونا في جبال الريف المغربية مثلاً، وكأن مدينة ووهان الصينية على المقلب الآخر من المتوسط، الأمر الذي لم يكن متاحاً مع بروز فيروس سارس في عام 2003، والذي بدا، في حينه، وكأنه بعيد جداً وفي كوكبٍ آخر. إنها وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والهواتف الخليوية. ولذلك كله حتمية في تكثيف النقاشات واستنباط الآراء. وسط هذا المزيج، لا يمكنك البقاء جانباً، تحت شعار "تعلّمت كل شيء ولست بحاجة للتعلّم أكثر"، فقط لأن الأفكار التي حملتها تكفي بالنسبة إليك، وتعتقد أن هذه الأفكار أكبر من التغيير وإمكانية خضوعها لتبدّلات جذرية. إنها الخطيئة الأولى، لأنه في هذه المرحلة تختار الركون جانباً، فيمرّ القطار، لتشعر بعد فترة وكأنك في غربةٍ قاتلة. لا شيء يشبهك، ولا شيء يشبه أفكارك، ولا شيء يمكنه إنقاذ جمادها، فتُصاب بإحباطٍ كان يمكن تداركه. 
الخطيئة الثانية، اعتقادك، وفق هذا المنطق، أن الرؤى السياسية المبنية على التمييز الديني والعرقي والإنساني قادرة على الصمود والتطوّر فترة طويلة تقارب صمودها في التاريخ القريب، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، غير أن ذلك لا يبدو صحيحاً، فمنطق التمييز يتهاوى عموماً، من دون تجاهل شراسة العنصريين حالياً. لم يعد محطّمو الجدران بين البشر أقلّية في عالمنا، على الرغم من حاجتهم لمزيد من الوقت، لكنهم باتوا قوةً لا يُستهان بها. بالتالي، لا يمكن القول، مثلاً، وفق حسابات العام 2020، إنه سيتم تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلاتٍ طائفية بعد 50 عاماً، ما لم تكن قد وضعت في الحسبان أن عقل الأجيال الآتية وتفكيرها وسلوكها ومنهجيتها، بعد العقود الخمسة، لن تشبه واقعنا الحالي. ووفق هذه النقاط، ستستصعب حتمية ما تطرحه، لأنك أنت، مثلاً، لم تعد كما كنت منذ 20 عاماً، سواء في اعتناقك الأفكار، أو في السلوك الفردي والمجتمعي.
الخطيئة الثالثة، ظنّك أن "العالم مرسومٌ بحسب خطة معيّنة لحكومة ظلّ أو مجموعة مختبئة في وكرٍ ما"، بينما فعلياً إن ما جعل سلالة البشر مستمرّة هو مزيج من المصادفات والسلوكات العفوية أكثر منه خطة منظمة. ففي اللحظة التي ستنتظم فيها البشرية في نظام واحد، وهو أمرٌ صعبٌ أقلّه في زمننا، ستكون قد بدأت بتدوين بداية نهايتها. ولكن من المؤكد أن تدفق الأفكار واستمرارها سيُفسح المجال أمام خياراتٍ مستقبليةٍ عدة.
بناء عليه، هل يُمكن للإنسان الحفاظ على فكرة جامدة؟ لا طبعاً. يمكن التحرّك ضمن ثوابت معيّنة، والثابتة هنا بمفهومها البديهي سموّ القيمة الإنسانية على ما عداها من قيمٍ. ومتى كانت تلك الثابتة نقطة انطلاق لكل الأفكار، تسقط باقي الأفكار غير المتمحورة حول الإنسان. أصلاً التاريخ، على الرغم من سوداويته في أحيانٍ عدّة، لم يتمكّن من فرض فكرةٍ تمييزيةٍ وجعلها دستوراً دائماً. وكما في كل حقبة زمنية، فإن توارد الأفكار العابرة للدول والقارات، سيتيح إسقاط الحدود الفكرية المصطنعة، أو بالأحرى الموروثات الموهومة. عليه، فإن المناداة بالتمييز بين البشر سواء داخل كل بلد أو على مستوى أكبر، سيتحوّل إلى "درسٍ أسود" للأجيال المقبلة، يُراد الخروج منه، وعدم تكراره، والتأكيد أن القيمة الإنسانية أكبر من الأفكار التمييزية.
دلالات
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".