02 نوفمبر 2024
تحوّلات الجماعة المارونية
نادراً ما تجد إجماعاً لدى الجماعة المارونية في لبنان حول شخصٍ واحد، بغضّ النظر عن الأفكار والأيديولوجيات. من صميم تلك الجماعة ـ الطائفة أنها متحرّرة من الولاء الأعمى للشخص أو الموقع، بموازاة غلوّ "الأنا" التقليدية لدى كل فردٍ فيها تقريباً، طبعاً من دون تعميم. الجماعة المارونية التي ودّعت بطريركها السابق، نصر الله صفير، يوم الخميس الماضي، ليست "مصادفةً" عابرة في شرقٍ يعجّ بأقلياتٍ متماوجةٍ وأكثريات متضادّة. التاريخ ليس تفصيلاً. النواة الأولى للموارنة زحفت من سورية إلى جبال لبنان الشمالية، حيث الملاذ من الهجمات الطائفية والمذهبية التي شهدها الشرق في القرون الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة. عاش الموارنة في الأرياف والجبال شمالي لبنان، فترات طويلة، قبل بدء التمدّد نحو الشواطئ وعمق جبل لبنان. ساهموا في حماية اللغة العربية من حملات التتريك العثمانية. كانوا، كغيرهم من الطوائف اللبنانية في القرن التاسع عشر، محسوبين على دول خارجية. فرنسا للموارنة، بريطانيا للدروز، روسيا للأرثوذكس، العثمانيون للمسلمين. ولسخرية القدر أن الانتماء الطوائفي لدولٍ خارجية لم ينتهِ في لبنان بعد في الزمن الحالي.
في عام 1920، وصل الموارنة إلى قمة مجدهم. فرنسا أعلنت عن ولادة "دولة لبنان الكبير"، مع امتيازاتٍ في السلطة للمسيحيين عموماً، وللموارنة خصوصاً. وبين احتلال فرنسي باسم "انتداب" والاستقلال اللبناني عام 1943، نشأت بذور ما عُرفت بـ"المارونية السياسية"، وهي تسمية يُراد منها توصيف كل من شارك في حكم لبنان بين عامي 1943 و1975 (تاريخ بدء الحرب اللبنانية)، ولو كان من غير الموارنة، للدلالة على ارتباط الجماعة المارونية بالنظام اللبناني.
وقعوا في الأخطاء، شأن أسلافهم وأجدادهم. ليس من السهل أن تكون أقلية في شرق ديني، وغير قادرٍ على التصرّف بطريقة متوازنة. منهم من كان يمينيّاً متطرّفاً، ومنهم من كان يسارياً متطرفاً، ولو بنسبٍ متفاوتة. توزعت انتماءاتهم السياسية بين أفكارٍ وأطراف عدة، حتى أن انتماءهم للبنان وطنا حاضنا لهم، أو ملجأ لهم، كان مجرد وجهة نظر لدى بعض الموارنة الذين انتقل كثيرون منهم إلى الشيوعية والحزب السوري القومي الاجتماعي والأحزاب العروبية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. بدا الموارنة وكأنهم خرجوا من "الجماعة" إلى عوالم عشوائية مضادّة فكرياً لكل ما ساروا عليه. جنون وضعهم أولاً على حافّتي تطرّف بين السوريين والإسرائيليين في حرب لبنان (1975 ـ 1990)، وثانياً في مواجهة بعضهم بعضا. حاول كثيرون شيطنتهم جماعةً، وكأنهم نازيون. خطيئة سُجّلت ضدهم. التعميم قاتلٌ في لبنان ودائم، سواء من يمينيّ خاسر أو من يساريّ غير منتصر.
هناك نموذجان في الشرق لجماعات ـ أمم، اليهودي والكردي. سعى الأول، باسم "حق العودة إلى الجذور"، إلى سلب أرض فلسطين من أصحابها، في خطيئةٍ دموية، ندفع ثمنها في الشرق الأوسط والعالم العربي منذ أكثر من 71 عاماً. الثاني يبحث عن وطنٍ حمله بين أكتافه في شمال الشرق الأوسط، من دون أن يحصل عليه، على الرغم من تمدّده الديمغرافي بين جبال إيران وشواطئ تركيا وسورية. نموذجان واحدهما تحوّل إلى عنصري مجرم قاتل للهوية التاريخية والثاني إلى هائم في صحراء التاريخ والجغرافيا. الموارنة لا يشبهون هذين النموذجين. لبنان نموذجهم الوحيد، وساحة استقرار لهم بالمبدأ، لكن الأمم التي تمرّ برخاءٍ أو سلامٍ معرّضة أكثر من غيرها للخراب والدمار، في حال عدم تطوير هذا الرخاء والاستقرار إلى مستوياتٍ تالية. لم يكن الموارنة يحتاجون عملياً إلى أكثر من شخصٍ واحد، يقرأ بصوتٍ واع مآل التاريخ والجيوبوليتيك، لدوزنة تحوّلات ما بعد نكسة 1967. ريمون إدّه كان أحد هؤلاء، لكن التطرّف كان أقوى لدى الجماعة، بحكم انزلاق الشرق إلى التطرّف، حتى سقوطها سياسياً. غير أنه، وعلى عكس المسار، لم تعد الجماعة إلى الجبال، فالتمدّد بات أقوى من الانغلاق، حتى إشعار آخر.
في عام 1920، وصل الموارنة إلى قمة مجدهم. فرنسا أعلنت عن ولادة "دولة لبنان الكبير"، مع امتيازاتٍ في السلطة للمسيحيين عموماً، وللموارنة خصوصاً. وبين احتلال فرنسي باسم "انتداب" والاستقلال اللبناني عام 1943، نشأت بذور ما عُرفت بـ"المارونية السياسية"، وهي تسمية يُراد منها توصيف كل من شارك في حكم لبنان بين عامي 1943 و1975 (تاريخ بدء الحرب اللبنانية)، ولو كان من غير الموارنة، للدلالة على ارتباط الجماعة المارونية بالنظام اللبناني.
وقعوا في الأخطاء، شأن أسلافهم وأجدادهم. ليس من السهل أن تكون أقلية في شرق ديني، وغير قادرٍ على التصرّف بطريقة متوازنة. منهم من كان يمينيّاً متطرّفاً، ومنهم من كان يسارياً متطرفاً، ولو بنسبٍ متفاوتة. توزعت انتماءاتهم السياسية بين أفكارٍ وأطراف عدة، حتى أن انتماءهم للبنان وطنا حاضنا لهم، أو ملجأ لهم، كان مجرد وجهة نظر لدى بعض الموارنة الذين انتقل كثيرون منهم إلى الشيوعية والحزب السوري القومي الاجتماعي والأحزاب العروبية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. بدا الموارنة وكأنهم خرجوا من "الجماعة" إلى عوالم عشوائية مضادّة فكرياً لكل ما ساروا عليه. جنون وضعهم أولاً على حافّتي تطرّف بين السوريين والإسرائيليين في حرب لبنان (1975 ـ 1990)، وثانياً في مواجهة بعضهم بعضا. حاول كثيرون شيطنتهم جماعةً، وكأنهم نازيون. خطيئة سُجّلت ضدهم. التعميم قاتلٌ في لبنان ودائم، سواء من يمينيّ خاسر أو من يساريّ غير منتصر.
هناك نموذجان في الشرق لجماعات ـ أمم، اليهودي والكردي. سعى الأول، باسم "حق العودة إلى الجذور"، إلى سلب أرض فلسطين من أصحابها، في خطيئةٍ دموية، ندفع ثمنها في الشرق الأوسط والعالم العربي منذ أكثر من 71 عاماً. الثاني يبحث عن وطنٍ حمله بين أكتافه في شمال الشرق الأوسط، من دون أن يحصل عليه، على الرغم من تمدّده الديمغرافي بين جبال إيران وشواطئ تركيا وسورية. نموذجان واحدهما تحوّل إلى عنصري مجرم قاتل للهوية التاريخية والثاني إلى هائم في صحراء التاريخ والجغرافيا. الموارنة لا يشبهون هذين النموذجين. لبنان نموذجهم الوحيد، وساحة استقرار لهم بالمبدأ، لكن الأمم التي تمرّ برخاءٍ أو سلامٍ معرّضة أكثر من غيرها للخراب والدمار، في حال عدم تطوير هذا الرخاء والاستقرار إلى مستوياتٍ تالية. لم يكن الموارنة يحتاجون عملياً إلى أكثر من شخصٍ واحد، يقرأ بصوتٍ واع مآل التاريخ والجيوبوليتيك، لدوزنة تحوّلات ما بعد نكسة 1967. ريمون إدّه كان أحد هؤلاء، لكن التطرّف كان أقوى لدى الجماعة، بحكم انزلاق الشرق إلى التطرّف، حتى سقوطها سياسياً. غير أنه، وعلى عكس المسار، لم تعد الجماعة إلى الجبال، فالتمدّد بات أقوى من الانغلاق، حتى إشعار آخر.