التحقت الرقة، التي تعد من كبريات المحافظات السورية مساحة، بالثورة في البدايات، لكن مشاركتها لم تكن بنفس الزخم الذي كان موجوداً في محافظات أخرى لأسباب متعددة. أغلب شباب المحافظة كانوا خارجها، حيث قادتهم الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها المحافظة بدءاً من منتصف عقد التسعينيات من القرن المنصرم إلى البحث عن الرزق داخل سورية وخارجها، كما أن جزءاً مهماً من شباب الرقة كانوا يتواجدون في جامعات سورية لإكمال دراستهم وشاركوا بفعالية في نشاطات الثورة حيث تواجدوا.
اقرأ أيضاً الثورة مستمرة
تصاعدت وتيرة الثورة في الرقة خلال عام 2012، فواجهها النظام بالبطش. وقد حاول شبابها أكثر من مرة الوصول إلى قلب المدينة لهدم تمثال الرئيس السابق حافظ الأسد، الذي يتواجد في أكبر ساحاتها، لكن قوات النظام كانت تمنعهم بالرصاص فسقط عشرات الشباب قتلى ومصابين في سبيل تحقيق هذه الغاية. في العام نفسه أيضاً، بدأت تخرج مناطق داخل المحافظة عن سيطرة النظام لعل أشهرها مدينة تل أبيض على الحدود التركية في سبتمبر/أيلول، فبدأت فصائل الجيش السوري الحر بالاقتراب من مدينة الرقة، مركز المحافظة، حتى جاء يوم الرابع من شهر مارس/آذار من العام 2013، والذي لم يكن يوماً عادياً في مسيرة الثورة السورية، حيث خرجت مدينة الرقة عن سيطرة النظام في ذاك اليوم، لتكون أول مركز محافظة سورية تشهد هذا التحول.
كان إسقاط تمثال حافظ الأسد، الذي كان يطلق عليه أهالي المحافظة اسم "الصنم" حدثاً مهماً، رأى مراقبون أنه أعطى الثورة دفعة كبرى نحو الاستمرار على الرغم من بطش النظام. كما كان الحدث يوماً فارقاً في تاريخ المحافظة التي تقع إلى الشرق من سورية، وتعد من المحافظات الاقتصادية الهامة. وتضم الرقة ثروة نفطية كبيرة، فضلاً عن كونها المحافظة الأهم زراعياً في البلاد، حيث يشطرها من الوسط نهر الفرات الذي أقيم عليه سد الطبقة الشهير. والأخير ينتج قسماً كبيراً من الطاقة الكهربائية لسورية.
من بين الفصائل المسلحة التي شاركت في السيطرة على مجمل المحافظة في بدايات مارس/آذار 2013 حركة أحرار الشام وجبهة النصرة. وبدأت تشهد المحافظة حراكاً مدنياً ثورياً مميزاً على الرغم من غارات طيران النظام التي لم تكن تتوقف، لكن سرعان ما بدأت رايات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بالظهور شيئاً فشيئاً في المناطق المحررة من المحافظة. بدأ نفوذ التنظيم بالاتساع وصولاً إلى نهاية ذاك العام الذي شهد صراعاً كبيراً بين فصائل المعارضة السورية من جهة، وبين التنظيم من جهة أخرى في شمال وشرق سورية. انتهى الصراع بطرد "داعش" من محافظة إدلب ومدينة حلب مقابل سيطرته على مناطق المعارضة شرق حلب، والرقة، والحسكة، ومن ثم ريف دير الزور. ولم ينقض صيف العام 2014 إلا وكان التنظيم القوة الضاربة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية.
تحولت الرقة إثر سيطرة "التنظيم" على مطارها العسكري، وكان آخر مقرّ للنظام في المحافظة، إلى أهم معقل للتنظيم في سورية، ما جرّ عليها الويلات المتلاحقة. بدأ طيران النظام حملة دموية على المدينة أدت إلى مقتل وإصابة المئات من أهلها الذين وجدوا أنفسهم في عيون عواصف من كل جانب، ما أدى إلى هجرة عدد كبير من أهلها إلى المنافي القريبة (تركيا)، والبعيدة (أوروبا)، ولا سيما أن التنظيم "فرض قوانينه المتشددة، وأعدم عدداً كبيراً من ناشطي المدينة، وفسح بالمجال لعناصره الأجانب للتحكم بمصائر الناس"، كما يقول ناشط لا يزال في المدينة تحدث لـ"العربي الجديد".
في العاشر من سبتمبر/ أيلول من عام 2014، بدأ التحالف الدولي، الذي ضم أكثر من عشرين دولة، حملة قصف مركز على مواقع تنظيم "داعش" داخل المحافظة "المنكوبة" ما أدى أيضاً إلى مقتل مدنيين "باتوا وقوداً لحروب ليست حروبهم، ولم يختاروها، فزادت أوضاع المحافظة سوءاً"، كما يقول الناشط الإعلامي أبو البتول. ويلفت الناشط نفسه في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "التنظيم سدّ كل سبل الحياة أمام من بقي من سكان في الرقة، وأغلق المدارس حيث لم يتعلم أبناء المحافظة على مدى عامين. كما طرد المنظمات الدولية التي تهتم بالنواحي الطبية".
بعد عام تقريباً من هذه التحولات، وتحديدا في الثلاثين من سبتمبر الماضي، بدأ الطيران الروسي حملة أخرى في عموم سورية ظاهرها قتال تنظيم "داعش" وباطنها القضاء على فصائل المعارضة السورية بحجة مكافحة "الارهاب". نالت محافظة الرقة نصيبها من غارات وصفها ناشطون بـ "المتوحشة" قتلت وأصابت مئات المدنيين، ودمرت أغلب مراكز مدينة الرقة الحيوية من جسور، ومراكز صحية، ومدارس.
وسبق ذلك، تمكّن الوحدات الكردية، في منتصف يونيو/حزيران من انتزاع قسم مهم من جغرافية محافظة الرقة الشمالية إثر سيطرتها على مدينة تل أبيض ومحيطها من تنظيم "داعش"، حيث شرعت في تنفيذ حملات تهجير وصفت بـ"الممنهجة" لسكانها من عرب وتركمان، ليجري ضم المدينة لاحقاً إلى ما يُسمّى "الإدارة الذاتية" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي.
يؤكد الناشط أبو البتول، الذي لا يزال يصر على البقاء في مدينته، أن الرقة اليوم "تترقب المجهول الآتي من كل اتجاه وأهلها يُدركون أن أياماً صعبة أخرى تنتظرهم، ربما لن تكون أقل ألماً من أيام انقضت، سرقت البسمة من ثغر محافظة كانت تشتهر بالمواويل الحزينة، وتعاني من الإقصاء والتهميش، ولكنها اليوم في مركز اهتمام العالم". ولعل ما كتبه أحد أدباء الرقة يلخص تحولات المدينة بقوله: "الحزن ﻻ يليق بالرقة التي تباد بألف طريقة، وألف تحالف، وألف تآمر وخذلان... أمنا الحنون رقتنا.. يليق بك فرحك القادم رغم طغاة العصر.. فاض نهر الفرات دماً.. وجعنا أكبر من كل الكلمات".
اقرأ أيضاً: ثورة حقيقية في سورية