14 نوفمبر 2024
تحوّلات الرواية وبريق الجوائز
على هامش فعاليات الدورة الثانية لجائزة كتارا للرواية العربية التي اختتمت، في الدوحة، مساء أمس، أتساءل عن معنى ًمصطلح تحولات الرواية الذي كلفتني إدارة الجائزة بإعداد ورقة بحثية حوله في حدوده الخليجية تحديداً، لأجد أن مصطلح "تحولات الرواية" هذا يبدو مثل نهرٍ يغير مجراه، تبعاً لطبيعة الأرض التي يمرّ بها. لذلك، إننا أمام احتمالاتٍ كثيرة لا يتوقعها النهر، وعليه أن يفسح مجالاً لائقاً بمائه لكي يصل، أخيراً، إلى المحيط، نتيجة حتمية لقوانين جغرافيةٍ، لا دخل للنهر بها.
كذلك هو حال الرواية التي ترتبط قسرياً بالمناخ المحيط بها سياسياً وعاطفياً واجتماعياً، وحتى اقتصادياً، فهي تتبع بمجرى سردها البيئة التي تتبدّل بشكل سريع ومتلاحق، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وبالتالي، كان على الرواية أن تلهث للحاق بهذه المتغيرات.
ولأن ارتباط التحولات وشيج بالمنطقة التي تولد فيها الرواية، قد يكون من الصعب إعطاء وصفٍ دقيقٍ لهذه التحولات، فهي قد تتبع قطراً كاملاً، وقد تتبع مدينة واحدة، أو حتى حياً من أحياء المدينة. ومع ذلك، تبقى ثمّة ملامح عامة يمكن أن تعكس صورة هذه التحولات.
قبل انتشار وسائل الاتصال الحديثة، كان رصد الرواية للأحداث بطيئاً، وقد تمضي سنوات عديدة، قبل أن تظهر روايةٌ تكتب عن هذه التحولات، أما اليوم، فنجد أن الحدث ما زال مشتعلاً، بينما تصدر رواياتٌ تتحدّث عنه، وقد تتحول سريعاً إلى أعمال درامية، تماماً مثل التحولات التي طرأت على بعض أقطار الوطن العربي في السنوات الخمس الأخيرة، فكانت الروايات تصدر عن الحدث الذي ما زال دائراً في الشارع.
لذلك، نحن هنا في صدد السؤال، هل ما نقصده تحولاتٍ أسلوبية وفنية أم تاريخية، فإذا كان الأمر يعني تحولات أسلوبية وفنية، فهو أكثر اتساعاً، لأن الأمر ليس قانوناً ثابتاً، فعلى صعيد الكتابة الروائية، هناك إما روايات واقعية أو رمزية أو شعرية أو رومانسية، أو غيرها، وهي "مَسْطرة" غالباً لا يخرج الروائيون عنها إلا بابتكار أسلوب مزيج أو جديد إبداعياً، لكنه يبقى منضوياً تحت قبة هذه الأقانيم المدرسية.
وما يمكن القفز فوقه في هذا المجال قولنا إن الرواية في بلد ما هل نضجت أم أنها بدائية. وحتى هذا التعبير، يبدو مجحفاً، لأن بعض البواكير الروائية كانت ناضجة أكثر من الروايات اللاحقة. وهذا يقودنا إلى أن رصد التحوّلات الفنية والأسلوبية غير ممكن توثيقه بشكل رقمي جامد.
وإذا افترضنا وجود ملامح مشتركة للرواية الخليجية، والتي أفضّل أن أسميها الرواية العربية في الخليج، نسبة إلى لغتها وعاءً فكرياً وثقافياً وقومياً أيضا لها، أو سعينا إلى البحث عن هذه الملامح، فسوف تصادفنا أشكالٌ من الأعمال الروائية ذات السمت الخليجي الدقيق. فبعد مرحلةٍ امتدت حوالي عشرين عقداً، كانت تلك الرواية محصورةً في بيئتها بين الحاضرة والبادية والصحراء والبحر والطقوس الاجتماعية التي شكلت مادةً غنيةً للروائيين، كونها أرضاً لم تُكتشف بعد، تغيّر الوضع انفتاحاً هائلاً في الشكل والموضوع وبطريقة لافتة، على الرغم من التجاهل شبه المقصود لها من الآخرين خارج الدائرة الجغرافية الخليجية!
ومع حدوث الطفرة النفطية، وسفر الروائيين إلى الخارج، ودخول شرائح اجتماعية جديدة من الوافدين إلى المنطقة، بدأت الرواية الخليجية توسّع دائرتها أكثر، فقرأنا رواياتٍ وقعت أحداثها خارج الخليج، خصوصاً في الغرب، أو رواياتٍ مزجت بين واقعي المجتمع المحلي والمجتمع الوافد. وهكذا أصبح لدى الروائي متسعٌ من المشاهد البصرية المتنوعة والخيارات الكثيرة من أمكنة وشخصيات وأحداث، بسبب اختلاف المكان الذي أصبح أكثر زخماً في أبنيته ومحلاته ومعطياته التقنية التي انعكست على أعمال روائية، حاكت هذه التطورات، وجسّدت إنسان الإنترنت المنفتح على ثقافات أوسع، وربما غير محدودة، وإن كانت واضحةً وفاعلةً جدا، وكان نتاجها الروائي متّسقاً معها، ما يجعل من الرواية العربية في الخليج تبدو نموذجاً دقيقاً لتطبيق فكرة مصطلح التحولات الروائية بشكل عام.. ولا تحتاج إلا إلى توكيد ذلك علمياً وبحثياً بمثل هذه الندوات النقدية والبحثية، بعيداً عن معمعة الجوائز وبريقها الذي يخطف أبصار الروائيين والنقاد، وربما القراء أيضاً.