تحيا اللجنة المستقلة
عندما تحدث مذبحة (أو مذابح) كبرى في مكان ما في أثناء تصادمات بين أجهزة أمنية ومدنيين، فإن المتهم الأول، بداهة، هم قادة الأجهزة الأمنية، قد تثبت، لاحقًا، إدانتهم أو براءتهم، لكنهم ابتداءً متهمون، في وضعية الاتهام بداهة وعقلًا ومنطقًا، أولًا لامتلاكهم القرار في القوة الصادمة، وثانيًا لمسؤوليتهم المباشرة عن حفظ حياة المواطنين وأمنهم.
ثم يكون النطاق التالي لهم في المسؤولية هو رأس النظام، بل يكون هو المتهم الأول إن كان صاحب النفوذ الفعلي الذي لا يتحرك قادة الأجهزة الأمنية إلا عن أمره، بينما يتراجع وراءهم إن كان النفوذ الحقيقي هو لقادة الأجهزة الأمنية.
هذه المسلمات البديهية تحققت واقعًا في المذابح التي شهدتها مصر في الشهور الأولى لنظام 3 يوليو، من (الحرس الجمهوري) إلى (المنصة) إلى (رابعة) إلى (رمسيس) إلى (أبو زعبل)، إلى مذابح سيناء المتعددة، وهي النتيجة نفسها التي وصلت إليها تحقيقات منظمة هيومن رايتس ووتش، والتي دانت تلك المذابح، بوصفها قتلاً متعمداً و(ممنهجاً) للمتظاهرين في مصر، وحددت ترتيب المسؤولية في تقريرها الشهير، الذي زاد عن 150 صفحة تحمّل إدانة كاملة للأجهزة الأمنية المصرية والرئاسة والحكومة، تبعًا للترتيب التالي:
-المسؤولية الأولى: وزير الداخلية. الثانية: وزير الدفاع (في ذلك الوقت). الثالثة: رئيس البلاد (في ذلك الوقت).
فتطابقت المسؤولية الفعلية، كما دلت عليها التحقيقات المطولة مع بداهة الأمر، فالمتهم الأول هو وزير الداخلية (كان يجب أن يكون المتهم الثاني، ذلك أن وزير الدفاع، صاحب التفويض، هو الذي أشرف على خطة فض رابعة وتابعها عن قرب)، لكن الأخير أصبح المتهم الثاني (لا بأس لم يفلت بعيدًا)، والمتهم الثالث من الطبيعي أن يكون رئيس البلاد (ولو كان صوريًا، فهذه الصورية حولته من المتهم الأول إلى الثالث).
من هنا، يمكننا أن نحكم على طبيعة وعجينة (اللجنة المستقلة) التي أمر رئيس البلاد التي وقعت تلك المذابح في عهده، وعلى يد أجهزته، بتشكيلها للتحقيق في ملابسات تلك الحوادث وبيان المسؤولية بخصوصها!
تخيل مثلًا لو أن رئيس مؤسسة منهوبة يعلم الجميع أنه، وزمرته، المسؤولون المباشرون فيها، قد قرر أن يوضح للناس أسباب خرابها المالي، فأمر بعض موظفيها بتشكيل لجنة (مستقلة) للوقوف على أسباب هذا الخراج، وتحديد المسؤول، على أن ترفع اللجنة عملها إليه أولًا!والآن، وبعد أكثر من عام، انتهت اللجنة المستقلة (لا أعلم إن كانت كلمة مستقلة اسمها أم صفتها، بالتأكيد ليست صفتها، أظن أن ذلك هو اسمها، مثل أسماء (داليا)، و(فريدة) و(زينب)، هي اسمها (مستقلة). المستقلة انتهت، بعد أكثر من عام من تحقيقاتها، فعرضت تقريرها يوم 23 نوفمبر/ تشرين ثاني 2014، على رئيس البلاد الذي كان وزيرًا للدفاع وقت بدء اللجنة عملها.
أي أن لجنتنا المستقلة شكلت بقرار من (المتهم الثالث) في هذه المذابح، ثم هي، في نهاية عملها، لا تنشره مباشرة على الناس، كما تقتضي أبسط مبادئ الاستقلال، بل هي تعرضه أولًا على (المتهم الثاني) وزير الدفاع السابق ورئيس البلاد الحالي، تعرض عليه التقرير الذي من المفترض أن يدينه، أو يبرئه.
طبعًا، لا يوجد صاحب منطق سليم، حتى لو كان مؤيدًا لعهد 3 يوليو، لسبب أو لآخر، قد ظن في هذه اللجنة الإستقلالية حقًا، أو أنها قد تخرج بنتائج، تدين من شكلها، ومن تلقى عملها في النهاية، فالأمر كله واضح من البداية. ومع ذلك، ما كنت أتصور أن يتم إخراجه بهذا الإبتذال والإسفاف والإستخفاف بالعقل والأخلاق إلى هذه الدرجة، ولا أدري حقًا بأي مسوغ أخلاقي أو قانوني، سولت تلك اللجنة لنفسها أن تقابل وزير الدفاع السابق، الرئيس الحالي، عدة مرات، وتطلعه في كل مرحلة على نتائجها، وتتلقى منه التوجيهات السرية والعلنية، فأي استقلالٍ، بقي لها ولو حتى شكليًا، حتى الشكل، لم يحاولوا المحافظة عليه، حتى ورقة التوت أبوا أن يستروا بها أمرهم.
ولا أدري ما هو الفارق بين هذه اللجنة والتي سبقتها، لقد واصلت طريق الابتذال نفسه الذي سارت عليه اللجنة الأولى التي رفعت تقريرها للرئيس السابق، وقالت، صراحة، أن الأمر إليه في أن ينشره بالكامل، أو ينشره جزئيًا، أو لا ينشره!. (ما شاء الله على الاستقلال).(ألف – باء) الاستقلالية أن تكون اللجنة مستقلة في إرادة تشكيلها، بعيدًا عن الأطراف موضوع التحقيق، وفي ذوات أشخاصها، ابتعادًا عن تلك الأطراف، وثم مسار عملها مبتعدة عن تلك الأطراف، اللهم إلا في إطار التحقيق معهم (لا التجالس والتشاور معهم وعرض عملها عليهم لتحكيمهم فيه بالنشر أو المنع)، ثم، في النهاية، الإستقلالية في طرح نتائج عملها مباشرة على الرأي العام المحلي والعالمي، من دون النظر لأي اعتبارات أخرى.
تخيل لو أن القاضي يعرض قراره على المتهم، أولًا، ويشاوره فيه، كيف، بظنكم، تكون مصداقية هذه المحاكمة، وكيف بظنكم سيخرج حكمها؟ هذه اللجنة الثانية مثل الأولى، لا تضيف شيئًا إلا إلى عجائب مصر التي لا تنقضي عجائبها، ولا تزيد شيئًا إلا إلى مضحكات مصر التي هي ضحك كالبكاء.