ترامب... والهويات القاتلة
"إن الهوية بنت الولادة لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض"، يقول درويش هذا الكلام مخاطباً رفيقه في القضية والمنفى إدوارد سعيد، الذي كان يعد نفسه دائماً فلسطينياً وأميركياً في الآن نفسه.
أستحضر هذه القصيدة بصفة خاصة وتصور درويش لمسألة الهوية بصفة عامة، وأنا أتخيله، أي درويش، وهو يهمس ويحط هذا الكلام في أذن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم، الذي أعطى لنفسه صلاحية تصنيف البلدان وترتيب الإنسان. وأغلق على شعبه الأبواب وحدد لهم مسبقاً الزوار والأعداء، واختار لشعبه أصدقاء الخير من السوء، في مسرحية تراجيدية لمحاكمة البشر والنوايا.
كأني بالتاريخ أعلن نهايته على منهج فوكوياما ليقول لنا: إن أميركا ومن يجري في فلكها يمثلون الخير، والآخر الذي هو الشرق والإسلام يمثل الشر. وها نحن نراه اليوم يضع اللمسات الأخيرة ليقنع العالم بالفكرة التاريخية التي ترسخت مع أنتروبولوجيا القرن التاسع عشر، مع تغيير طفيف في الأطراف ولعب على أوتار الجغرافيا، لينسب كل الصفات الإيجابية لأميركا اليوم، وكل الصفات السلبية للشرق والمسلمين.
أمام هذه السردية التي تُحبك أمامنا لصناعة هوية مزيفة وممسوخة، بما فيها من طمس وقتل لهوية أميركا التي تنفلت من كل تحديد أيضاً، ولم تستقر يوماً على انتماء واحد، تكمن النظرة الأحادية ونزعة التمركز حول الذات التي تحكم العديد من قادة العالم، والتي تغذي بالتالي شعوب بعض البلدان الذين أصبحوا سجيني أيديولوجية الدولة التي تخدمها على مر التاريخ آلة إعلامية (مدرسة، ودين، اقتصاد...إلخ) لصنع هويات تحت الطلب.
إن لجوء ترامب إلى إعلان أسماء البلدان الستة الذين سيتم منع مواطنيها من دخول أميركا يقوم على تزكية للذات ولأميركا وشيطنة للآخر، وكأنها وحدها القراءة الموجودة، والتي على العالم اليوم تصديقها والاقتناع بها. وكأن أميركا ليست لها يد ولم تكن تاريخياً طرفاً في هيكلة خريطة عالمنا المعاصر، وما يجري خصوصاً بالشرق الأوسط.
الأمر الذي يدفع مجددا إلى طرح العديد من الأسئلة حول الهوية الحقيقية لأميركا؟ والانتماءات العرقية التي شكلت الهوية الأميركية؟ وما الذي قدمته أميركا وباقي البلدان الأوروبية لباقي دول العالم في مساعدتها للقضاء على الفقر والجهل الذي نحصد اليوم بعض نتائجه؟ ألم يكن عليها يوماً أن تتوقف عن التدخل في شؤون الآخرين على الأقل؟
إن عالمنا المعاصر بما فيه من بشاعة وتأجيج للهويات القاتلة الطائفية، أصبح عليه أن يتجه إلى مزيد من الانفتاح والإيمان بحق الآخر في الاختلاف. إنه حقا لفعل كوميدي أن تلجأ دولة اليوم إلى إغلاق حدودها ومنع الناس من دخول أراضيها، بعدما عملت على شيطنتهم وألبست هويتهم مختلف مظاهر التطرف والعنف والدموية، في حين يكفي دونالد ترامب مشاهدة فيلم the birth of a nation لصاحبه Nate Parker، ليقدم له هذا الأخير درساً في العبودية الأميركية، تجاه الأفارقة السود بين ظفرين، ويكشف الهوية القاتلة لأميركا، هذه الأخيرة التي يعمل ترامب على وضع لمساتها الأخيرة، بحيث لا يمكن للمواطن الأميركي أن يطالب الآخرين غداً باستقباله بالثمر والحليب، وهو الذي عملت بلده على تجريمه وشيطنته. إن الطريقة الدفاعية التي تنهجها أميركا بالتقوقع على ذاتها ونفيها للآخر، تؤدي إلى صنع هوية منغلقة ومسطحة ومتطرفة في علاقتها بالآخر. وهي نفسها الطريقة التي نهجتها البلدان التي يعمل ترامب اليوم على شيطنتها في لحظة من التاريخ عندما أحست أن هويتها وثرواتها تغتصب.
فالاحتماء بالجدران بدعوى الدفاع عن التراث الليبرالي وحماية الأميركيين من الإرهاب، لا يختلف عن القراءات السلفية المتطرفة من داخل الإسلام ومحاربة الآخر بدعوى الحفاظ على نقاء الإسلام، وحماية المسلمين من الكفار والعلمانيين والملحدين.
رغم ما يحكم العالم اليوم من علاقات الاستغلال بين البلدان وبين بني البشر بصفة عامة، فإن سر استمرار ووجود العالم بهذا النمط تؤسسه نظرة تكاملية أصبحت بنية مركبة تجارياً واقتصادياً...إلخ. ونحن نرى تحركات ترامب نتساءل عن علاقة هذا الأخير ومن يحذو حذوه من تراث المنظرين الليبراليين الأميركيين، من تنظيرات جون راولز صاحب نظرية العدالة كإنصاف، ويورغن هابرماس أبرز منظري حقوق الإنسان والديمقراطية والفضاء العمومي بناء على أخلاقيات التواصل والحوار. ربما لو تحدثنا إلى هابرماس اليوم وهو يرى ما يحدث، لعبّر عن ندمه وهو ينحاز قليلاً عن التراث الماركسي لمدرسة فرانكفورت، وإيمان ماركس بمبدأ الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ.
إن ترامب، وهو يحاكم النوايا، يجعلنا نقول إن أميركا لم تلعب يوماً إلا دور المؤجج للهويات القاتلة الطائفية، بتدخلها المستمر في شؤون الآخرين من باكستان إلى العراق، بما يخدم مصالحها دائماً. والتاريخ يشهد بأنها لم تقدم مساعدة جادة لمحاربة الفقر والقضاء على الجهل في باقي بلدان العالم، وإنما كانت الأنظار تتجه دوماً إلى ثروات الآخرين الطبيعية والتجارية وفي قوة جسدهم كيد عاملة.
لهذا يمكن القول إن العدو ليس دائماً هو الآخر الذي يستوجب علينا القضاء عليه، كما تقول الفيلسوفة جوليا كريستيفا، بل يجب العمل على الذات وكشف العدو الذي يسكننا ويقبع بدواخلنا. إن العدو هو الذي يلبس هويتنا أحياناً، فيحرمنا متعة اللقاء والتعرف على الآخر قبل أن نبغضه في ذاته.
هذا الآخر المسلم القادم من دول محددة بعناية، والذي يمثل العدو والشر المطلق بالنسبة لترامب ومن يجري في فلكه، هجر وطنه غصباً، غادره وهو يحمل في إحدى كفيه آلامه وفي الأخرى آماله التي علقها وأصبحت مرتبطة بالأرض التي يقال إنها قبلة المهاجرين.
إنه نفسه المهاجر العراقي الذي تعرف على أميركا في درس الابتدائي، بعنوان الغزو الأميركي للعراق، واليمني الذي ترك أطفاله وأسرته تحت الأنقاض بسبب قصف طائرة أميركية من دون طيار لمواقع محتملة لتنظيم الدولة الإسلامية باليمن، والسوري الذي يحتفظ ببقايا أشلاء أمه بين كومة ملابسه. كل هؤلاء وآخرون في الشرق الأوسط تعرفوا على أميركا في درس مدرسي لحقوق الإنسان.
إن هذا الكلام ربما تضعه أميركا في نموذجها "الترامبي" على لائحة أخطر الإرهابيين، وتكف بالتالي عن محاصرة المهاجرين الذي حفظوا درس حقوق الإنسان غصباً عنهم، فباتوا يحلمون بوطن لهم في المهجر ملقى به على قارعة الطريق والأرصفة الأميركية، مجسداً في مطعم يحمل عنوان وطن، ولم تمهلهم الحرب ولا حتى ظروف بلدهم فرصة التفكير لمعرفة الضحية من الجلاد.
ليست هذه المقالة إلا دعوة للتفكير في جذور التطرف والإرهاب بشكل جدي، بعيداً عن سردية المركزية حول الذات وشيطنة الآخر. هذا الفهم الذي يعصف بمستقبل الشباب والأجيال القادمة سواء داخلياً أو خارجياً، فأغلب المواطنين الأميركيين لا يعرفون اليوم ماذا يقع خارج حدودهم ولا يكلفون نفسهم عناء فهم الآخر بعيداً عن الأحكام، التي يتم الترويج لها من طرف الآلة الإعلامية، ويصبح الآخر بالتالي هو الجلاد والضحية في الوقت نفسه.
فهو ضحية من جهة أن هذا الآخر يعرف تاريخياً سلسلة تدخل مستمرة في شؤونه، وينظر إليه كخزان واحتياطي للثروات الطبيعية ولليد العاملة من داخل النظام العالمي الرأسمالي، الذي لا يكتسب الغير من داخله إلا قيمة نفعية خارجية. وهو جلاد من جهة الترويج على أنه شيطان العصر، ويتعين القضاء عليه وعزله في حظيرة الإرهابيين، من دون تحديد أو تمييز.